فصل: الجزء الخامس

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


الموسوعة الفقهية / الجزء الخامس

إشرافٌ

التعريف

1 - الإشراف لغةً‏:‏ مصدر أشرف، أي اطّلع على الشّيء من أعلى‏.‏ وإشراف الموضع‏:‏ ارتفاعه، والإشراف‏:‏ الدّنوّ والمقاربة‏.‏ وانطلاقاً من المعنى الأوّل أطلق المحدّثون كلمة إشرافٍ على ‏(‏المراقبة المهيمنة‏)‏‏.‏ وهو معنًى استعمله الفقهاء كالمعاني اللّغويّة الأخرى‏.‏ فقد استعملوه في مراقبة ناظر الوقف والوصيّ والقيّم ومن في معناهم‏.‏ الإشراف بمعنى العلوّ‏:‏

أ - إشراف القبر‏:‏

2 - لا يحلّ أن يكون القبر مشرفاً بالاتّفاق، لما رواه مسلمٌ وغيره عن أبي الهيّاج الأسديّ قال‏:‏ «قال لي عليّ بن أبي طالبٍ‏:‏ ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألاّ تدع تمثالاً إلاّ طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته» وفي اعتبار تسنيم القبر إشرافاً خلافٌ تجده مفصّلاً في كتاب الجنائز من كتب الفقه‏.‏

ب - إشراف البيوت‏:‏

3 - يباح للإنسان أن يعلو ببنائه ما شاء بشرطين‏:‏

الأوّل‏:‏ ألاّ يضرّ بغيره، كمنع النّور أو الهواء عن الغير‏.‏

الثّاني‏:‏ ألاّ يكون صاحب البناء ذمّيّاً، فيمنع من تطويل بنائه على بناء المسلمين، وإن رضي المسلم بذلك، ليتميّز البناءان، ولئلاّ يطّلع على عورة المسلم‏.‏ وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجزية‏.‏ الإشراف بمعنى الاطّلاع من أعلى‏:‏

4 - يمنع الشّخص من الإشراف على دار غيره إلاّ بإذنه، ولذلك يمنع من أن يفتح في جداره كوّةً يشرف منها على جاره وعياله‏.‏

5 - أمّا الإشراف على الكعبة والنّظر إليها فهو من جملة القربات، والسّاعي بين الصّفا والمروة يصعد على الصّفا وعلى المروة حتّى يشرف على الكعبة، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الحجّ عند كلامهم على السّعي بين الصّفا والمروة‏.‏ الإشراف بمعنى المراقبة المهيمنة‏:‏

6 - إقامة هذا النّوع من الإشراف واجبٌ تحقيقاً للمصالح الّتي هي مقصدٌ من مقاصد الشّارع ويتجلّى ذلك فيما يأتي‏:‏

أ - الولاية‏:‏ سواءٌ أكانت ولايةً عامّةً كولاية أمير المؤمنين والقاضي ونحوهما، أم ولايةً خاصّةً كولاية الأب على ابنه الصّغير، كما سيأتي ذلك مفصّلاً في مبحث ‏(‏ولايةٌ‏)‏‏.‏

ب - الوصاية‏:‏ كالوصاية على المحجور عليه كما هو مبيّنٌ في مبحث ‏(‏الحجر‏)‏‏.‏

ج - القوامة‏:‏ كقوامة الرّجل على زوجته، كما هو مفصّلٌ في مبحث ‏(‏النّكاح‏)‏‏.‏

د - النّظارة‏:‏ كناظر الوقف، كما هو مفصّلٌ في كتاب الوقف من كتب الفقه‏.‏ الإشراف بمعنى المقاربة والدّنوّ‏:‏

7 - يترتّب على الإشراف بهذا المعنى كثيرٌ من الأحكام، ذكرها الفقهاء في أبوابها، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر‏:‏

أ - عدم أكل الذّبيحة إذا ذبحت بعد أن أشرفت على الموت، على خلافٍ وتفصيلٍ مبيّنٍ في كتاب الذّبائح ‏(‏التّذكية‏)‏‏.‏

ب - وجوب إنقاذ من أشرف على الموت كالغريق ونحوه إن كان من الممكن إنقاذه‏.‏

ج - وجوب الانتفاع باللّقطة إذا أشرفت على التّلف‏.‏ كما هو مبيّنٌ في كتاب ‏(‏اللّقطة‏)‏‏.‏

إشراكٌ

التعريف

1 - الإشراك‏:‏ مصدر أشرك، وهو اتّخاذ الشّريك، يقال أشرك باللّه‏:‏ جعل له شريكاً في ملكه، والاسم الشّرك‏.‏ قال اللّه تعالى حكايةً عن لقمان‏:‏ ‏{‏يا بنيّ لا تشرك باللّه إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ‏}‏ هذا هو المعنى المراد عند الإطلاق‏.‏ كما يطلق أيضاً على الكفر الشّامل لجميع الملل غير الإسلام‏.‏ فالشّرك أخصّ من الكفر على الإطلاق العامّ، فكلّ شركٍ كفرٌ ولا عكس‏.‏ كما يطلق الإشراك على مخالطة الشّريكين‏.‏ يقال‏:‏ أشرك غيره في الأمر أو البيع‏:‏ جعله له شريكاً‏.‏ كما يقال‏:‏ تشارك الرّجلان، واشتركا، وشارك أحدهما الآخر‏.‏ وتفصيله في مصطلحي ‏(‏توليةٍ، وشركةٍ‏)‏‏.‏

الإشراك باللّه تعالى

2 - الإشراك باللّه تعالى جنسٌ تحته أنواعٌ، وكلّه مذمومٌ، وإن كان بعضه أكبر من بعضٍ‏.‏ والشّرك له مراتب، فمنه الشّرك الأكبر، ومنه الأصغر، وهو الشّرك الخفيّ‏.‏

أ - الشّرك الأكبر‏:‏ وهو اتّخاذ الشّريك للّه تعالى في ألوهيّته أو عبادته، وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ‏}‏ وعن ابن مسعودٍ في الصّحيحين قال‏:‏ «سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أيّ الذّنب أعظم عند اللّه ‏؟‏ قال‏:‏ أن تجعل للّه ندّاً وهو خلقك»

ب - الشّرك الأصغر وهو الشّرك الخفيّ‏:‏ وهو مراعاة غير اللّه في العبادة‏.‏ مثل الرّياء والنّفاق، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً‏}‏ قال ابن حجرٍ‏:‏ نزلت فيمن يطلب الحمد والأجر بعباداته وأعماله‏.‏ وقول رسول اللّه‏:‏ «إنّ أدنى الرّياء شركٌ، وأحبّ العبيد إلى اللّه الأتقياء الأسخياء الأخفياء» وقوله عليه السلام‏:‏ «إنّ أخوف ما أتخوّف على أمّتي الإشراك باللّه، أما أنّي لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير اللّه وشهوةً خفيّةً»

ما يكون به الشّرك

3 - يكون الشّرك بأمورٍ يتنوّع اسمه بحسبها إلى ما يأتي‏:‏

أ - شرك الاستقلال، وهو إثبات إلهين مستقلّين كشرك الثّنويّة، أو أكثر من إلهين‏.‏

ب - شرك التّبعيض، وهو اعتقاد أنّ الإله مركّبٌ من آلهةٍ، كشرك النّصارى القائلين بالأقانيم الثّلاثة وشرك البراهمة‏.‏

ت - شرك التّقريب، وهو عبادة غير اللّه ليقرّب إلى اللّه زلفًى، كشرك متقدّمي الجاهليّة‏.‏

ث - شرك التّقليد، وهو عبادة غير اللّه تعالى تبعاً للغير، كشرك متأخّري الجاهليّة‏.‏

ج - الحكم بغير ما أنزل اللّه مع استحلال ذلك‏:‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه‏}‏ وقد ورد «أما إنّهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنّهم كانوا إذا أحلّوا لهم شيئاً استحلّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئاً حرّموه» فهم لم يعبدوهم ولكن شرعوا لهم ما لم يأذن به اللّه‏.‏ وشرك الأغراض‏:‏ وهو العمل لغير اللّه تعالى‏.‏

ح - شرك الأسباب‏:‏ وهو إسناد التّأثير للأسباب العاديّة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الكفر‏:‏

4 - الكفر اسمٌ يقع على ضروبٍ من الذّنوب، منها الشّرك باللّه، ومنها الجحد للنّبوّة، ومنها استحلال ما حرّم اللّه، ومنها إنكار ما علم من الدّين بالضّرورة‏.‏ أمّا الشّرك فهو خصلةٌ واحدةٌ، هو اتّخاذ إلهٍ مع اللّه‏.‏ وقد يطلق الشّرك على كلّ كفرٍ على سبيل المبالغة‏.‏ فعلى هذا يكون كلّ شركٍ كفراً، ولا يكون كلّ كفرٍ شركاً إلاّ على سبيل المبالغة‏.‏

ب - التّشريك

5 - التّشريك مصدر‏:‏ شرّك، وهو جعلك الغير لك شريكاً في الأمر أو البيع‏.‏ فهو بمعنى الإشراك‏.‏ إلاّ أنّه عند الإطلاق ينصرف الإشراك إلى‏:‏ اتّخاذ شريكٍ للّه، والتّشريك‏:‏ اتّخاذك للغير شريكاً في المال أو الأمر‏.‏

صفته وحكمه التّكليفيّ

6 - الإشراك باللّه تعالى حرامٌ‏.‏ وحكم الأنواع الخمسة الأولى كفر مرتكبها بالإجماع‏.‏ وحكم السّادس المعصية من غير كفرٍ بالإجماع‏.‏ وحكم السّابع التّفصيل، فمن قال في الأسباب العاديّة‏:‏ إنّها تؤثّر بطبعها فقد حكي الإجماع على كفره، ومن قال إنّها مؤثّرةٌ ‏(‏على سبيل الاستقلال‏)‏ بقوّةٍ أودعها اللّه فيها فهو فاسقٌ‏.‏

إسلام المشرك

7 - يدخل المشرك كغيره من الكفّار في الإسلام بالنّطق بالشّهادتين، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فمن قالها فقد عصم منّي ماله ونفسه إلاّ بحقّه، وحسابه على اللّه»‏.‏ ولم تشترط المذاهب الأربعة إضافة شيءٍ إلى الشّهادتين، كالتّبرّي من كلّ دينٍ يخالف دين الإسلام، إلاّ في بعض الحالات‏.‏ وهناك أمورٌ أخرى يدخل بها المشرك في الإسلام، وينظر تفصيل ذلك كلّه تحت عنوان ‏(‏إسلامٌ‏)‏‏.‏

نكاح المشرك والمشركة

8 - أنكحة الكفّار المتّفق عليها بينهم الأصل فيها الصّحّة، وأنّهم يقرّون عليها، وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ موطنه مصطلحا‏:‏ ‏(‏نكاحٌ، وكفرٌ‏)‏‏.‏ ولا يختلف نكاح المشركين عن غيرهم من الكفّار أهل الكتاب إلاّ في أنّ الكافر إذا أسلم وكانت زوجته كتابيّةً فله استدامة نكاحها، وليس له ذلك إن كانت مشركةً غير كتابيّةٍ، وانظر التّفصيل تحت عنوان ‏(‏نكاحٌ‏)‏‏.‏

الاستعانة بالمشركين في الجهاد

9 - المراد بالمشرك هنا ما يعمّ كلّ كافرٍ، فينظر‏:‏ إن خرج للخدمة، كسائق سيّارةٍ ونحوه، فذلك جائزٌ اتّفاقاً‏.‏ أمّا إذا خرج للقتال فهناك ثلاثة اتّجاهاتٍ‏:‏ ذهب الجمهور إلى الجواز مطلقاً، سواءٌ أكان خروجه بدعوةٍ أم بغير دعوةٍ، واستدلّوا على ذلك «بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استعان بناسٍ من اليهود في حربه»، كما روي «أنّ صفوان بن أميّة خرج مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنينٍ»، وهو على شركه، فأسهم له‏.‏

وذهب المالكيّة في المعتمد عندهم إلى منع الاستعانة بالمشرك، لكن لا يمنع إذا خرج من تلقاء نفسه‏.‏ والرّأي الآخر للمالكيّة - وهو اختيار أصبغ - أنّه يمنع مطلقاً‏.‏

أخذ الجزية من المشركين

10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الجزية تقبل من أهل الكتاب، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا الّذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم اللّه ورسوله، ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون‏}‏ واتّفقوا كذلك على أخذها من المجوس، لنصّ الحديث «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» ولأنّ لهم شبهة كتابٍ‏.‏«وقد وضع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الجزية عليهم»‏.‏ أمّا ما عدا هؤلاء فهم ثلاثة أنواعٍ‏:‏

أ - مرتدّون‏:‏ وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية بالإجماع، لأنّ المرتدّ كفر بربّه بعد ما هدي للإسلام ووقف على محاسنه، فلا يقبل منه إلاّ الإسلام أو السّيف‏.‏

ب - مشركون من العرب‏:‏ وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزة في حقّهم أظهر، ولذلك لا يقبل منهم إلاّ الإسلام، فإن لم يسلموا قتلوا، والرّاجح عند المالكيّة أنّه تقبل منهم الجزية‏.‏

ج - مشركون من غير العرب‏:‏ وهؤلاء لا تقبل منهم الجزية عند الشّافعيّة وظاهر مذهب الإمام أحمد، ولا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السّيف، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وقوله «صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها»

وعند الحنفيّة والمالكيّة وروايةً عن الإمام أحمد تقبل منهم الجزية، لأنّه يجوز استرقاقهم، فيجوز ضرب الجزية عليهم‏.‏

11-أجاز العلماء إعطاء الأمان للمشرك ليسمع كلام الله؛ لقوله تعالى‏:‏‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه‏}‏ قال الأوزاعي‏:‏هي إلى يوم القيامة‏.‏ كما أجازه للرسل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤمن رسل المشركين، وقال لرسولي مسيلمة‏:‏«لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما» ويكون الأمان من الإمام، لأن ولايته عامة، ومن والأمير لمن يوجد بإزائه من المشركين، ومن مسلم مكلف مختار لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏«ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم،فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل منه صرف ولاعدل» والتفصيل في مصطلح ‏(‏مستأمن‏)‏

صيد المشرك وذبيحته

12 - اتّفق العلماء على تحريم صيد المجوسيّ وذبيحته إلاّ ما لا ذكاة له كالسّمك والجراد، فإنّهم أجمعوا على إباحته‏.‏ وحكم سائر الكفّار من عبدة الأوثان والزّنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم إلاّ ما لا ذكاة له كالسّمك والجراد، لقوله «صلى الله عليه وسلم أحلّت لنا ميتتان‏:‏ الحوت والجراد» وقال في البحر «هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته»‏.‏ كما اتّفق فقهاء المذاهب على حلّ صيد الكتابيّ وذبيحته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وطعام الّذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم‏}‏ قال البخاريّ‏:‏ طعامهم‏:‏ ذبائحهم، وهو المرويّ عن ابن مسعودٍ وأهل العلم، ولما روي عن قيس بن السّكن الأسديّ قال‏:‏ «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّكم نزلتم بفارسٍ من النّبط، فإذا اشتريتم لحماً فإن كان من يهوديٍّ أو نصرانيٍّ فكلوا، وإن كان ذبيحة مجوسيٍّ فلا تأكلوا» وللتّفصيل ر - ‏(‏صيدٌ، ذبائح‏)‏‏.‏

الأشربة

التعريف

1 - الأشربة جمع شرابٍ، والشّراب‏:‏ اسمٌ لما يشرب من أيّ نوعٍ كان، ماءً أو غيره، وعلى أيّ حالٍ كان‏.‏ وكلّ شيءٍ لا مضغ فيه فإنّه يقال فيه‏:‏ يشرب‏.‏ وفي الاصطلاح تطلق الأشربة على ما كان مسكراً من الشّراب، سواءٌ كان متّخذاً من الثّمار، كالعنب والرّطب والتّين، أو من الحبوب كالحنطة أو الشّعير، أو الحلويّات كالعسل‏.‏ وسواءٌ كان مطبوخاً أو نيئاً‏.‏ وسواءٌ كان معروفاً باسمٍ قديمٍ كالخمر، أو مستحدثٍ ‏(‏كالعرق والشمبانيا‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏)‏، لحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليشربنّ أناسٌ من أمّتي الخمر ويسمّونها بغير اسمها»‏.‏ أنواع الأشربة المسكرة وحقيقة كلّ نوعٍ‏:‏

2 - تطلق الأشربة المسكرة عند الفقهاء على اختلاف مذاهبهم على قسمين‏:‏ الخمر، والأشربة الأخرى‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ الخمر

التعريف

3 - الخمر لغةً‏:‏ ما أسكر من عصير العنب، وسمّيت بذلك لأنّها تخامر العقل‏.‏ وحقيقة الخمر إنّما هي ما كان من العنب دون ما كان من سائر الأشياء‏.‏ قال الفيروزآبادي‏:‏ الخمر ما أسكر من عصير العنب، أو هو عامٌّ، والعموم أصحّ، لأنّها حرّمت وما بالمدينة خمر عنبٍ، وما كان شرابهم إلاّ البسر والتّمر‏.‏ وقال الزّبيديّ يشرح قول صاحب القاموس‏:‏ ‏(‏أو عامٌّ‏)‏ أي‏:‏ ما أسكر من عصير كلّ شيءٍ، لأنّ المدار على السّكر وغيبوبة العقل، وهو الّذي اختاره الجماهير‏.‏ وسمّي الخمر خمراً، لأنّها تخمّر العقل وتستره، أو لأنّها تركت حتّى أدركت واختمرت‏.‏ فعلى القول الأوّل يكون إطلاق اسم الخمر على سائر الأنبذة المسكرة من باب القياس اللّغويّ لما فيها من مخامرة العقل‏.‏

4 - واصطلاحاً‏:‏ اختلف الفقهاء في تعريف الخمر بناءً على اختلافهم في حقيقتها في اللّغة وإطلاق الشّرع‏.‏ فذهب أهل المدينة، وسائر الحجازيّين، وأهل الحديث كلّهم، والحنابلة، وبعض الشّافعيّة إلى أنّ الخمر تطلق على ما يسكر قليله أو كثيره، سواءٌ اتّخذ من العنب أو التّمر أو الحنطة أو الشّعير أو غيرها‏.‏ واستدلّوا بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ»‏.‏ وبقول عمر رضي الله عنه‏:‏ أيّها النّاس‏:‏ إنّه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسةٍ‏:‏ من العنب، والتّمر، والعسل، والحنطة، والشّعير‏.‏ والخمر ما خامر العقل‏.‏ وإنّ القرآن لمّا نزل بتحريم الخمر فهم الصّحابة - وهم أهل اللّسان - أنّ كلّ شيءٍ يسمّى خمراً يدخل في النّهي، فأراقوا المتّخذ من التّمر والرّطب ولم يخصّوا ذلك بالمتّخذ من العنب، على أنّ الرّاجح من حيث اللّغة كما تقدّم هو العموم‏.‏ ثمّ على تقدير التّسليم بأنّ المراد بالخمر المتّخذ من عصير العنب خاصّةً‏.‏ فإنّ تسمية كلّ مسكرٍ خمراً من الشّرع كان حقيقةً شرعيّةً، وهي مقدّمةٌ على الحقيقة اللّغويّة‏.‏ وذهب أكثر الشّافعيّة، وأبو يوسف ومحمّدٌ من الحنفيّة، وبعض المالكيّة إلى أنّ الخمر هي المسكر من عصير العنب إذا اشتدّ، سواءٌ أقذف بالزّبد أم لا، وهو الأظهر عند الشّرنبلاليّ وذهب أبو حنيفة وبعض الشّافعيّة إلى أنّ الخمر هي عصير العنب إذا اشتدّ‏.‏ وقيّده أبو حنيفة وحده بأن يقذف بالزّبد بعد اشتداده‏.‏ واشترط الحنفيّة في عصير العنب كونه نيئاً‏.‏ يتبيّن ممّا سبق أنّ إطلاق اسم الخمر على جميع أنواع المسكرات عند الفريق الأوّل من باب الحقيقة، فكلّ مسكرٍ عندهم خمرٌ‏.‏

وأمّا الفريق الثّاني والثّالث، فحقيقة الخمر عندهم عصير العنب إذا غلى واشتدّ عند الفريق الثّاني، وقذف بالزّبد عند الفريق الثّالث‏.‏ وإطلاقه على غيره من الأشربة مجازٌ وليس بحقيقةٍ‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الأشربة المسكرة الأخرى

5 - ذهب جماهير العلماء إلى أن يكون كلّ مسكرٍ خمراً هو حقيقةٌ لغويّةٌ أو شرعيّةٌ كما علم ممّا سبق، وجمهور الشّافعيّة الّذين ذهبوا إلى أنّ الخمر ما كان من عصير العنب لا يخالفون الجمهور في أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ، والاختلاف في الإطلاق بين الجمهور، وأكثر الشّافعيّة لم يغيّر الأحكام من وجوب الحدّ عند شرب قليله، والنّجاسة، وغير ذلك ممّا يتعلّق بالخمر، ما عدا مسألة تكفير مستحلّ غير الخمر، فلا يكفر منكر حكمه للاختلاف فيه، كما سيأتي كلّ ذلك مفصّلاً‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ الخمر الّتي يحرم قليلها وكثيرها، ويحدّ بها، ويكفر مستحلّها، إلى غير ذلك هي المتّخذة من عصير العنب خاصّةً، أمّا الأنبذة عندهم فلا يحدّ شاربها إلاّ إذا سكر منها‏.‏ والأشربة المحرّمة عند الحنفيّة على ثلاثة أنواعٍ النّوع الأوّل‏:‏ الأشربة المتّخذة من العنب وهي‏:‏

أ - الخمر وهي المتّخذة من عصير العنب النّيء إذا غلى واشتدّ عند أبي يوسف ومحمّدٍ، وقذف بالزّبد عند أبي حنيفة‏.‏ وبقول الصّاحبين من عدم اشتراط قذف الزّبد قال الأئمّة الثّلاثة مالكٌ والشّافعيّ وأحمد‏.‏ ولعصير العنب أنواعٌ بحسب ذهاب جزءٍ منه بالطّبخ، كالباذق، والطّلاء، والمثلّث، والمنصّف ولا يختلف حكمها كما سيأتي بيانه‏.‏ وفي حكم هذا النّوع ما يتّخذ من الزّبيب، وهو صنفان‏:‏

1 - نقيع الزّبيب وهو أن يترك الزّبيب في الماء من غير طبخٍ حتّى تخرج حلاوته إلى الماء، ثمّ يشتدّ ويغلي ويقذف بالزّبد عند أبي حنيفة، أو لم يقذف بالزّبد عند صاحبيه‏.‏

2 - نبيذ الزّبيب وهو النّيء من ماء الزّبيب إذا طبخ أدنى طبخٍ وغلى واشتدّ‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ ما يتّخذ من التّمر أو الرّطب ‏(‏وهو السّكّر‏)‏ والبسر ‏(‏وهو الفضيخ‏)‏‏.‏ وفي حكم هذا النّوع الخليطان‏.‏ وهو شرابٌ من ماء الزّبيب وماء التّمر أو البسر أو الرّطب المختلطين إذا طبخا أدنى طبخٍ وإن اشتدّ، ولا عبرة بذهاب الثّلثين

النّوع الثّالث‏:‏ نبيذ ما عدا العنب والتّمر كالعسل أو التّين أو البرّ ونحوها‏.‏ هذه هي الأشربة المحرّمة عند الحنفيّة، أمّا الخمر فبإجماع الأمّة، وأمّا نبيذ العنب والتّمر فيحرم عند أبي حنيفة وأبي يوسف القدر المسكر منها خلافاً لمحمّدٍ، وأمّا نبيذ العسل والتّين والبرّ والشّعير ونحو ذلك فمباحٌ عند أبي حنيفة وأبي يوسف، بشرط ألاّ يشرب للهوٍ أو طربٍ، وخالفهما محمّدٌ، ورأيه هو المفتى به عند الحنفيّة، كما سيتّضح فيما يأتي‏.‏

أحكام الخمر

6 - المراد بالخمر هنا جميع المسكرات جرياً على مذهب الجمهور، وأحكامها ما يأتي‏:‏ الأوّل‏:‏ تحريم شربها قليلها وكثيرها‏:‏

7 - ثبتت حرمة الخمر بكتاب اللّه وسنّة رسوله وإجماع الأمّة‏.‏ أمّا الكتاب‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشّيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون‏.‏ إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون‏}‏‏.‏ وتحريم الخمر كان بتدريجٍ وبمناسبة حوادث متعدّدةٍ، فإنّهم كانوا مولعين بشربها‏.‏ وأوّل ما نزل صريحاً في التّنفير منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للنّاس‏}‏ فلمّا نزلت هذه الآية تركها بعض النّاس، وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما فيه إثمٌ كبيرٌ، ولم يتركها بعضهم، وقالوا‏:‏ نأخذ منفعتها، ونترك إثمها‏.‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى‏}‏ فتركها بعض النّاس، وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصّلاة، وشربها بعضهم في غير أوقات الصّلاة حتّى نزلت‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فصارت حراماً عليهم، حتّى صار يقول بعضهم‏:‏ ما حرّم اللّه شيئاً أشدّ من الخمر

8 - وقد أكّد تحريم الخمر والميسر بوجوهٍ من التّأكيد‏:‏ منها‏:‏ تصدير الجملة بإنّما‏.‏ ومنها‏:‏ أنّه سبحانه وتعالى قرنهما بعبادة الأصنام‏.‏ ومنها‏:‏ أنّه جعلهما رجساً‏.‏ ومنها‏:‏ أنّه جعلهما من عمل الشّيطان، والشّيطان لا يأتي منه إلاّ الشّرّ البحت‏.‏ ومنها‏:‏ أنّه أمر باجتنابهما‏.‏ ومنها‏:‏ أنّه جعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبةً وممحقةً‏.‏ ومنها‏:‏ أنّه ذكر ما ينتج منهما من الوبال، وهو وقوع التّعادي والتّباغض من أصحاب الخمر والقمار، وما يؤدّيان إليه من الصّدّ عن ذكر اللّه، وعن مراعاة أوقات الصّلاة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ من أبلغ ما ينهى به، كأنّه قيل‏:‏ قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصّوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصّوارف منتهون، أم أنتم على ما كنتم عليه، كأن لم توعظوا ولم تزجروا‏.‏

9 - وأمّا السّنّة فقد وردت أحاديث كثيرةٌ في تحريم الخمر قليلها وكثيرها‏.‏ وقد قال جماهير العلماء‏:‏ كلّ شرابٍ أسكر كثيره حرم قليله، فيعمّ المسكر من نقيع التّمر والزّبيب وغيرهما، لما تقدّم من الآية الكريمة وللأحاديث الشّريفة التّالية‏:‏ عن عائشة رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كلّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كلّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ»‏.‏ وعن سعد بن أبي وقّاصٍ أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره»‏.‏ وعن النّبيّ أنّه قال‏:‏ «ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ»‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كلّ مسكرٍ حرامٌ، وما أسكر منه الفرق فملء الكفّ منه حرامٌ»‏.‏ وعن أمّ سلمة قالت‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن كلّ مسكرٍ ومفتّرٍ»‏.‏ فهذه الأحاديث كلّها دالّةٌ على أنّ كلّ مسكرٍ حرامٌ، ومنها ما يدلّ على تسمية كلّ مسكرٍ خمراً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كلّ مسكرٍ خمرٌ»‏.‏ كما يدلّ بعضها على أنّ المسكر حرامٌ لعينه، قلّ أو كثر، سكر منه شاربه أو لم يسكر، وهذا عند الجمهور‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ النّيء من عصير العنب إذا غلى واشتدّ عند الصّاحبين، وقذف بالزّبد عند أبي حنيفة، هو الخمر الّتي يحرم شرب قليلها وكثيرها إلاّ عند الضّرورة، لأنّها محرّمة العين، فيستوي في الحرمة قليلها وكثيرها‏.‏ أمّا عصير غير العنب والتّمر، أو المطبوخ منهما بشرطه، فليس حراماً لعينه‏.‏ ومن هنا فلا يحرم إلاّ السّكر منه كما سيأتي تفصيله‏.‏ وأمّا السّكر والفضيخ ونقيع الزّبيب، فيحرم شرب قليلها وكثيرها باتّفاق الفقهاء، لما تقدّم من الأحاديث، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الخمر من هاتين الشّجرتين»‏.‏ وأشار عليه الصلاة والسلام إلى النّخلة والكرمة‏.‏ والّذي هاهنا هو المستحقّ لاسم الخمر، فكان حراماً‏.‏ هذا إذا كان عصيرهما نيئاً غير مطبوخٍ، وغلى واشتدّ عند الصّاحبين، وقذف بالزّبد عند أبي حنيفة‏.‏ أمّا المطبوخ من هذه الأشياء فسيأتي حكمه عند الأحناف‏.‏ شرب درديّ الخمر‏:‏

10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم شرب درديّ الخمر، ويحدّ شاربه، لأنّه خمرٌ بلا شكٍّ، وسواءٌ درديّ الخمر أو درديّ غيره، وأنّه لا فرق بين الجميع، ويحدّ بالثّخين منها إذا أكله‏.‏ وذهب الأحناف إلى كراهة شرب درديّ الخمر، لأنّ فيه ذرّات الخمر المتناثرة، وقليله ككثيره، ولكن لا يحدّ شارب الدّرديّ إلاّ إذا سكر، لأنّه لا يسمّى خمراً، فإذا سكر منه وجب الحدّ عليه، كما في شرب الباذق أو المنصّف‏.‏

حكم المطبوخ من العنب أو عصيره

11 - إنّ المطبوخ من عصير العنب أدنى طبخٍ، بحيث ذهب منه أقلّ من الثّلثين، وكان مسكراً يحرم شرب قليله وكثيره عند الفقهاء عامّةً، لأنّه إذا ذهب أقلّ من الثّلثين بالطّبخ، فالحرام فيه باقٍ، وهو ما زاد على الثّلث‏.‏ أمّا إذا ذهب ثلثاه بالطّبخ، وبقي ثلثه فهو حلالٌ وإن اشتدّ عند أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏ وقال محمّدٌ‏:‏ يحرم‏.‏ وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التّقوّي، أمّا إذا قصد به التّلهّي فإنّه لا يحلّ بالاتّفاق‏.‏ وعن محمّدٍ مثل قولهما‏.‏ وعنه أنّه كره ذلك، وعنه أنّه توقّف فيه‏.‏ هذا إذا طبخ عصير العنب، فأمّا إذا طبخ العنب كما هو، فقد حكى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنّ حكمه حكم العصير لا يحلّ حتّى يذهب ثلثاه‏.‏ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنّ حكمه حكم الزّبيب، حتّى لو طبخ أدنى طبخةٍ يكون بمنزلة الزّبيب، أي يحلّ منه ما دون المسكر وإن لم يذهب ثلثاه، لأنّ طبخه قبل عصره أبعد عن صفة الخمر، فلم يعتبر ذهاب الثّلثين‏.‏

حكم المطبوخ من نبيذ التّمر ونقيع الزّبيب وسائر الأنبذة

12 - مذهب جمهور العلماء - كما تقدّم - أنّ ما أسكر من النّيء والمطبوخ، سواءٌ اتّخذ من العنب أو التّمر أو الزّبيب أو غيرها يحرم شرب قليله وكثيره، وقد سبق ذكر أدلّتهم‏.‏ أمّا عند الحنفيّة، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ إنّ المطبوخ من نبيذ التّمر ونقيع الزّبيب أدنى طبخةٍ، يحلّ شربه ولا يحرم إلاّ السّكر منه‏.‏ وعن محمّدٍ روايتان‏:‏ الرّواية الأولى‏:‏ لا يحلّ شربه، لكن لا يجب الحدّ إلاّ بالسّكر‏.‏ والرّواية الثّانية‏:‏ قال محمّدٌ‏:‏ لا أحرّمه، ولكن لا أشرب منه‏.‏ واحتجّ أبو حنيفة وأبو يوسف لقولهما‏:‏ بأنّ طبخ العصير على هذه الصّفة - وهي أن يذهب أقلّ من ثلثيه - لا يحرم إلاّ السّكر منه، وإن اشتدّ وقذف بالزّبد، إذا غلب على ظنّه أنّ الشّراب لا يسكره، وذلك لأنّه ليس فيه قوّة الإسكار بنفسه‏.‏ هذا، وإن حلّ شرب القليل الّذي لا يسكر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ليس مطلقاً، ولكنّه مقيّدٌ بشروطٍ هي‏:‏

1 - أن يكون شربه للتّقوّي ونحوه من غرضٍ صحيحٍ‏.‏

2 - أن يشربه لا للّهو والطّرب، فلو شربه للّهو أو الطّرب فقليله وكثيره حرامٌ‏.‏

3 - ألاّ يشرب ما يغلب على ظنّه أنّه مسكرٌ، فلو شرب حينئذٍ، فيحرم القدح الأخير الّذي يحصل السّكر بشربه، وهو الّذي يعلم يقيناً، أو بغالب الرّأي، أو بالعادة أنّه يسكره‏.‏ وهذا كلّه عند أبي حنيفة وأبي يوسف، كما تقدّم، ومثلهما بقيّة فقهاء العراق‏:‏ إبراهيم النّخعيّ من التّابعين، وسفيان الثّوريّ، وابن أبي ليلى، وشريكٌ، وابن شبرمة، وسائر فقهاء الكوفيّين، وأكثر علماء البصريّين، فإنّهم قالوا‏:‏ إنّ المحرّم من غير الخمر من سائر الأنبذة الّتي يسكر كثيرها هو السّكر نفسه، لا العين، وهذا إنّما هو في المطبوخ منها‏.‏

13 - ودليل أبي حنيفة ومن معه من السّنّة ما يأتي‏:‏

أ - عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتي بنبيذٍ فشمّه، فقطّب وجهه لشدّته، ثمّ دعا بماءٍ فصبّه عليه وشرب منه»

ب - «إنّ النّبيّ قال‏:‏ لا تنبذوا الزّهو والرّطب جميعاً، ولا تنبذوا الرّطب والزّبيب جميعاً، ولكن انتبذوا كلّ واحدٍ منها على حدته»، وفي لفظ البخاريّ ذكر التّمر بدل الرّطب‏.‏ قالوا‏:‏ وهذا نصٌّ على أنّ المتّخذ من كلّ واحدٍ منها مباحٌ‏.‏

ج - عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن التّمر والزّبيب أن يخلط بينهما، يعني في الانتباذ»‏.‏ وزيد في روايةٍ أنّه قال‏:‏ «من شربه منكم فليشربه زبيباً فرداً، وتمراً فرداً، وبسراً فرداً»‏.‏

د - واستدلّوا على إباحة الخليطين بما روته عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «كنّا ننتبذ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في سقاءٍ، فنأخذ قبضةً من تمرٍ، وقبضةً من زبيبٍ، فنطرحهما فيه، ثمّ نصبّ عليه الماء فننتبذه غدوةً فيشربه عشيّةً، وننتبذه عشيّةً فيشربه غدوةً»

14 - وأدلّتهم من الآثار

أ - ما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه كتب إلى عمّار بن ياسرٍ رضي الله عنه‏:‏ إنّي أتيت بشرابٍ من الشّام طبخ حتّى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، فذهب منه شيطانه وريح جنونه، وبقي طيبه وحلاله، فمر المسلمين قبلك، فليتوسّعوا به في أشربتهم‏.‏ فقد نصّ على أنّ الزّائد على الثّلث حرامٌ، وأشار إلى أنّه ما لم يذهب ثلثاه فالقوّة المسكرة فيه قائمةٌ، ورخّص في الشّراب الّذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه‏.‏

ب - ما روي أيضاً عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يشرب النّبيذ الشّديد، وأنّه هو وعليٌّ وأبو عبيدة بن الجرّاح ومعاذ بن جبلٍ وأبو الدّرداء وأبو موسى الأشعريّ أحلّوا الطّلاء، وكانوا يشربونه، وهو‏:‏ ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وقال عمر‏:‏ هذا الطّلاء مثل طلاء الإبل، ثمّ أمر بشربه، وكان عليٌّ يرزق النّاس طلاءً يقع فيه الذّباب، فلا يستطيع الخروج منه، أي لحلاوته‏.‏ حكم الأشربة الأخرى‏:‏

15 - تقدّم أنّ مذهب جمهور العلماء تحريم كلّ شرابٍ مسكرٍ قليله وكثيره، وعلى هذا فإنّ الأشربة المتّخذة من الحبوب والعسل واللّبن والتّين ونحوها يحرم شرب قليلها إذا أسكر كثيرها، وبهذا قال محمّد بن الحسن من الحنفيّة وهو المفتى به عندهم‏.‏ وذلك للأدلّة المتقدّمة من أنّ كلّ شرابٍ مسكرٍ خمرٌ وكلّ خمرٍ حرامٌ ‏"‏ وغير ذلك‏.‏ ورأي الجمهور مرويٌّ عن عمر، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقّاصٍ، وأبيّ بن كعبٍ، وأنسٍ، وعائشة، وابن عبّاسٍ، وجابر بن عبد اللّه، والنّعمان بن بشيرٍ، ومعاذ بن جبلٍ، وغيرهم من فقهاء الصّحابة رضي الله عنهم‏.‏ وبذلك قال ابن المسيّب، وعطاءٌ، وطاوسٌ ومجاهدٌ، والقاسم، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، وأبو ثورٍ، وأبو عبيدٍ، وإسحاق بن راهويه، والأوزاعيّ، وجمهور فقهاء الحجاز، وجمهور المحدّثين عن فقهاء التّابعين ومن بعدهم‏.‏ تفصيلاتٌ لبعض المذاهب في بعض الأشربة‏:‏

16 - اختلف المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في حكم بعض الأشربة غير المسكرة في تقديرهم، كالخليطين، والنّبيذ، والفقّاع‏.‏

أ - الخليطان‏:‏ ذهب المالكيّة إلى تحريم الخليطين من الأشياء الّتي من شأنها أن تقبل الانتباذ، كالبسر والرّطب، والتّمر والزّبيب ولو لم يشتدّا، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم «نهى أن ينبذ الرّطب والبسر جميعاً»‏.‏ والنّهي يقتضي التّحريم، إذا لم يكن هناك قرينةٌ تصرفه إلى غير ذلك كالكراهة‏.‏ أي أخذاً بظاهر هذا الحديث وغيره يحرم الخليطان، وإن لم يكن الشّراب منهما مسكراً سدّاً للذّرائع‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يكره من غير المسكر‏:‏ المنصّف، وهو ما يعمل من تمرٍ ورطبٍ، والخليط‏:‏ وهو ما يعمل من بسرٍ ورطبٍ، لأنّ الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط قبل أن يتغيّر، فيظنّ الشّارب أنّه ليس بمسكرٍ، ويكون مسكراً، فإن أمن سكره ولم تكن فيه شدّةٌ مطربةٌ فيحلّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يكره الخليطان، وهو أن ينبذ في الماء شيئان، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الخليطين وعن أحمد‏:‏ الخليطان حرامٌ، قال القاضي‏:‏ يعني أحمد بقوله‏:‏ ‏(‏هو حرامٌ‏)‏‏.‏ إذا اشتدّ وأسكر، وهذا هو الصّحيح إن شاء اللّه، وإنّما نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعلّة إسراعه إلى السّكر المحرّم، فإذا لم يوجد لم يثبت التّحريم‏.‏

ب - النّبيذ غير المسكر‏:‏

17 - قال الحنابلة وغيرهم‏:‏ لا يكره إذا كانت مدّة الانتباذ قريبةً أو يسيرةً، وهي يومٌ وليلةٌ‏.‏ أمّا إذا بقي النّبيذ مدّةً يحتمل فيها إفضاؤه إلى الإسكار، فإنّه يكره، ولا يثبت التّحريم عند المالكيّة والشّافعيّة إلاّ بالإسكار، فلم يعتبروا المدّة أو الغليان‏.‏ ولا يثبت التّحريم عند الحنابلة ما لم يغل العصير، أو تمض عليه مدّة ثلاثة أيّامٍ بلياليها‏.‏ وإن طبخ العصير أو النّبيذ قبل فورانه واشتداده، أو قبل أن تمضي عليه ثلاثة أيّامٍ حتّى صار غير مسكرٍ كالدّبس، ونحوه من المربّيات، وشراب الخرّوب، فهو مباحٌ، لأنّ التّحريم إنّما ثبت في المسكر، فبقي ما عداه على أصل الإباحة‏.‏ واستدلّوا بحديث ابن عبّاسٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينقع له الزّبيب، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثّالثة، ثمّ يأمر به فيسقى أو يهراق»‏.‏

الانتباذ في الأوعية

18 - الانتباذ‏:‏ اتّخاذ النّبيذ المباح، وقد اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز الانتباذ في الأوعية المصنوعة من جلدٍ، وهي الأسقية، واختلفوا فيما سواها‏.‏ فذهب الحنفيّة إلى جواز الانتباذ في كلّ شيءٍ من الأواني، سواءٌ الدّبّاء والحنتم والمزفّت والنّقير، وغيرها، لأنّ الشّراب الحاصل بالانتباذ فيها ليست فيه شدّةٌ مطربةٌ، فوجب أن يكون الانتباذ في هذه الأوعية وغيرها مباحاً‏.‏ وما ورد من النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية منسوخٌ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم، فاشربوا في كلّ وعاءٍ، غير ألا تشربوا مسكراً» وفي روايةٍ «نهيتكم عن الظّروف، وإنّ ظرفاً لا يحلّ شيئاً ولا يحرّمه، وكلّ مسكرٍ حرامٌ» فهذا إخبارٌ صريحٌ عن النّهي عنه فيما مضى، فكان هذا الحديث ناسخاً للنّهي‏.‏ ويدلّ عليه أيضاً ما روى أحمد عن أنسٍ، قال‏:‏ «نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن النّبيذ في الدّبّاء والنّقير والحنتم والمزفّت»، ثمّ قال بعد ذلك‏:‏ «ألا كنت نهيتكم عن النّبيذ في الأوعية، فاشربوا فيما شئتم، ولا تشربوا مسكراً، من شاء أوكى سقاءه على إثمٍ» والقول بنسخ الانتباذ في الأوعية المذكورة هو قول جمهور الفقهاء، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح عندهم، فلا يحرم ولا يكره الانتباذ في أيّ وعاءٍ‏.‏ وقال جماعةٌ منهم ابن عمر وابن عبّاسٍ ومالكٌ وإسحاق‏:‏ يكره الانتباذ في الدّبّاء والمزفّت، وعليهما اقتصر مالكٌ، فلا يكره الانتباذ في غير الدّبّاء والمزفّت‏.‏

وكره أحمد في روايةٍ والثّوريّ الانتباذ في الدّبّاء والحنتم والنّقير والمزفّت، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الانتباذ فيها، فالنّهي عند هؤلاء باقٍ، سدّاً للذّرائع، لأنّ هذه الأوعية تعجّل شدّة النّبيذ‏.‏

حالات الاضطرار

19 - ما سبق من تحريم الخمر أو الأنبذة عند الإسكار إنّما هو في الأحوال العاديّة‏.‏ أمّا عند الاضطرار فإنّ الحكم يختلف، ويرخّص شرعاً تناول الخمر، ولكن بمعياره الشّرعيّ الّذي تباح به المحرّمات، كضرورة العطش، أو الغصص، أو الإكراه، فيتناول المضطرّ بقدر ما تندفع به الضّرورة، وهذا ليس مجمعاً على جميعه، بل فيه خلافٌ بين الفقهاء على النّحو التّالي‏:‏

أ - الإكراه‏:‏

20 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز شرب الخمر عند الإكراه، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّ اللّه تجاوز عن أمّتي الخطأ والنّسيان وما استكرهوا عليه» إلاّ أنّ الشّافعيّة مع قولهم بالجواز ألزموا شارب الخمر عند الإكراه - وكلّ آكل حرامٍ أو شاربه - أن يتقيّأه إن أطاقه، لأنّه أبيح شربه للإكراه، ولا يباح بقاؤه في البطن بعد زوال السّبب‏.‏ ولزيادة التّفصيل راجع مصطلح‏:‏ ‏(‏إكراهٌ‏)‏‏.‏

ب - الغصص أو العطش‏:‏

21 - يجوز للمضطرّ شرب الخمر إن لم يجد غيرها ‏(‏ولو ماءً نجساً كما صرّح به المالكيّة والحنابلة‏)‏ لإساغة لقمةٍ غصّ بها، باتّفاق فقهاء المذاهب الأربعة، خلافاً لابن عرفة من المالكيّة الّذي يرى أنّ ضرورة الغصص تدرأ الحدّ ولا تمنع الحرمة‏.‏ وإنّما حلّت عند غيره من الفقهاء لدفع الغصص إنقاذاً للنّفس من الهلاك، والسّلامة بذلك قطعيّةٌ، وهي من قبيل الرّخصة الواجبة عند الشّافعيّة‏.‏ أمّا شرب الخمر لدفع العطش، فذهب الحنفيّة - وهو قولٌ يقابل الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى جواز شربها في حالة الضّرورة، كما يباح للمضطرّ تناول الميتة والخنزير، وقيّدها الحنفيّة بقولهم‏:‏ إن كانت الخمر تردّ ذلك العطش ومفهومه أنّها إن لم تردّ العطش لا يجوز‏.‏ وذهب المالكيّة - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى تحريم شربها لدفع العطش، قال المالكيّة‏:‏ لأنّها لا تزيل العطش، بل تزيده حرارةً لحرارتها ويبوستها‏.‏ وقيّد الحنابلة حرمة شربها بكونها صرفاً، أي غير ممزوجةٍ بما يروي من العطش، فإن مزجت بما يروي من العطش جاز شربها لدفع الضّرورة‏.‏ وأمّا ضرورة التّداوي فسيأتي بيانها في أواخر هذا البحث‏.‏

الثّاني من أحكام الخمر‏:‏ أنّه يكفر مستحلّها

22 - لقد ثبتت حرمة الخمر بدليلٍ قطعيٍّ، وهو القرآن الكريم والسّنّة والإجماع، كما سبق‏.‏ فمن استحلّها فهو كافرٌ مرتدٌّ حلال الدّم والمال‏.‏ وللتّفصيل في ذلك انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّةٌ‏)‏‏.‏ هذا، وإنّ الخمر الّتي يكفر مستحلّها هي ما اتّخذ من عصير العنب، أمّا ما أسكر من غير عصير العنب النّيء فلا يكفر مستحلّه، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء، لأنّ حرمتها دون حرمة الخمر الثّابتة بدليلٍ قطعيٍّ، وهذه ثبتت حرمتها بدليلٍ ظنّيٍّ غير مقطوعٍ به من أخبار الآحاد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وآثار الصّحابة‏.‏

الثّالث‏:‏ عقوبة شاربها

23 - ثبت حدّ شارب الخمر بالسّنّة، فقد وردت أحاديث كثيرةٌ في حدّ شارب الخمر، منها ما روي عن أنسٍ «أنّ النّبيّ أتي برجلٍ قد شرب الخمر، فجلده بجريدتين نحو أربعين»‏.‏ قال‏:‏ وفعله أبو بكرٍ، فلمّا كان عمر استشار النّاس، فقال عبد الرّحمن‏:‏ أخفّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر‏.‏ وعن السّائب بن يزيد قال‏:‏ «كنّا نؤتى بالشّارب في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكرٍ، فصدراً من خلافة عمر، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتّى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتّى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين»‏.‏ وقد أجمع الصّحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر، ثمّ اختلفوا في مقداره ما بين أربعين أو ثمانين‏.‏ والجمهور على القول بالثّمانين‏.‏ وتفصيله في ‏(‏حدّ الشّرب‏)‏‏.‏ وعلى هذا يحدّ عند الجمهور شارب الخمر سواءٌ أسكر أم لم يسكر، وكذا شارب كلّ مسكرٍ، سواءٌ أشرب كثيراً أم قليلاً‏.‏ والمفتى به عند الحنفيّة أنّه يحدّ من شرب الخمر قليلها أو كثيرها، وكذا يحدّ من سكر من شرب غيرها‏.‏

ضابط السّكر

24 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة وغيرهم إلى أنّ السّكران هو الّذي يكون غالب كلامه الهذيان، واختلاط الكلام، لأنّ هذا هو السّكران في عرف النّاس وعاداتهم، فإنّ السّكران في متعارف النّاس اسمٌ لمن هذى، وإليه أشار الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله‏:‏ إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحدّ المفتري ثمانون‏.‏ فحدّ السّكر الّذي يمنع صحّة العبادات، ويوجب الفسق على شارب النّبيذ ونحوه هو الّذي يجمع بين اضطراب الكلام فهماً وإفهاماً، وبين اضطراب الحركة مشياً وقياماً، فيتكلّم بلسانٍ منكسرٍ، ومعنًى غير منتظمٍ، ويتصرّف بحركة مختبطٍ، ومشي متمايلٍ، وما زاد على ذلك ممّا يذكره الإمام أبو حنيفة فهو زيادةٌ في حدّ السّكر أي مقداره‏.‏ وذهب أبو حنيفة إلى أنّ السّكر الّذي يتعلّق به وجوب الحدّ هو الّذي يزيل العقل بحيث لا يفهم السّكران شيئاً، ولا يعقل منطقاً، ولا يفرّق بين الرّجل والمرأة، والأرض والسّماء، لأنّ الحدود يؤخذ في أسبابها بأقصاها، درءاً للحدّ، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» وقول الصّاحبين أبي يوسف ومحمّدٍ مال إليه أكثر المشايخ من الحنفيّة، وهو المختار للفتوى عندهم‏.‏ قال في الدّرّ‏:‏ يختار للفتوى لضعف دليل الإمام‏.‏

طرق إثبات السّكر

25 - إنّ إثبات الشّرب الموجب لعقوبة الحدّ لأجل إقامته على الشّارب بواسطة الشّهادة أو الإقرار أو القيء ونحوها تفصيله في حدّ شرب الخمر‏.‏ وانظر مصطلح ‏(‏إثباتٌ‏)‏‏.‏

حرمة تملّك وتمليك الخمر

26 - يحرم على المسلم تملّك أو تمليك الخمر بأيّ سببٍ من أسباب الملك الاختياريّة أو الإراديّة، كالبيع والشّراء والهبة ونحو ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إنّ الّذي حرّم شربها حرّم بيعها»‏.‏ وعن جابرٍ قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنّ اللّه ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» أمّا إذا كان التّملّك للخمر بسببٍ جبريٍّ كالإرث، فإنّها تدخل في ملكه وتورث، كما إذا كانت ملكاً لذمّيٍّ فأسلم، أو تخمّر عند المسلم عصير العنب قبل تخلّله، ثمّ مات والخمر في حوزته، فإنّها تنتقل ملكيّتها إلى وارثه بسببٍ غير إراديٍّ، فلا يكون ذلك من باب التّملّك والتّمليك الاختياريّ المنهيّ عنه‏.‏ وينبني على ما تقدّم أنّ الخمر هل هي مالٌ أو لا ‏؟‏ اختلف العلماء في ذلك‏:‏ فذهب الحنفيّة في الأصحّ عندهم، والمالكيّة إلى أنّها مالٌ متقوّمٌ، لكن يجوز إتلافها لغرضٍ صحيحٍ، وتضمن إذا أتلفت لذمّيٍّ‏.‏ في حين ذهب الحنفيّة - في مقابل الأصحّ - والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها ليست بمالٍ، وعلى هذا فيجوز إتلافها، لمسلمٍ كانت أو ذمّيٍّ‏.‏ أمّا غير الخمر من المسكر المائع، فذهب الجمهور ومحمّدٌ من الحنفيّة إلى أنّه لا يجوز إتلافه خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف وللتّفصيل انظر في ذلك مصطلحي ‏(‏بيعٌ‏)‏ ‏(‏وإتلافٌ‏)‏‏.‏

ضمان إتلاف الخمر أو غصبها

27 - اتّفق الفقهاء على أنّ الخمر إن كانت لمسلمٍ فلا يضمن متلفها، واختلفوا في ضمان من أتلف خمر الذّمّيّ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى القول بالضّمان، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى القول بعدم الضّمان، لانتفاء تقوّمها كسائر النّجاسات واتّفقوا أيضاً على أنّه لا تراق الخمرة المغصوبة من مسلمٍ إذا كانت محترمةً - وهي الّتي عصرت لا بقصد الخمريّة، وإنّما بقصد التّخليل - وتردّ إلى المسلم، لأنّ له إمساكها لتصير خلاًّ‏.‏ والضّمان هنا إذا وجب على المسلم، فإنّه يكون بالقيمة عند الحنفيّة والمالكيّة لا بالمثل، لأنّ المسلم ممنوعٌ عن تمليكه وتملّكه إيّاها، لما فيه من إعزازها‏.‏ وإذا وجب لذمّيٍّ على ذمّيٍّ، فقد صرّح الحنفيّة بأنّه يكون بالمثل‏.‏ وينظر أيضاً مصطلح ‏(‏إتلافٌ‏)‏ ‏(‏وضمانٌ‏)‏‏.‏

حكم الانتفاع بالخمر

28 - ذهب جمهور الفقهاء إلى تحريم الانتفاع بالخمر للمداواة، وغيرها من أوجه الانتفاع، كاستخدامها في دهنٍ، أو طعامٍ، أو بل طينٍ‏.‏ واحتجّوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وإنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم»‏.‏ وأخرج مسلمٌ في صحيحه وغيره «أنّ طارق بن سويدٍ رضي الله عنه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه - أو كره أن يصنعها - فقال‏:‏ إنّما أصنعها للدّواء، فقال‏:‏ إنّه ليس بدواءٍ، ولكنّه داءٌ»‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ يحدّ من شربها لدواءٍ‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ التّداوي بالخمر حرامٌ في الأصحّ إذا كانت صرفاً غير ممزوجةٍ بشيءٍ آخر تستهلك فيه، ويجب الحدّ‏.‏ أمّا إذا كانت ممزوجةً بشيءٍ آخر تستهلك فيه، فإنّه يجوز التّداوي به عند فقد ما يقوم به التّداوي من الطّاهرات، وحينئذٍ تجري فيه قاعدة الضّرورة الشّرعيّة‏.‏

وإذاً يجوز التّداوي بذلك لتعجيل شفاءٍ، بشرط إخبار طبيبٍ مسلمٍ عدلٍ بذلك، أو معرفته للتّداوي به، وبشرط أن يكون القدر المستعمل قليلاً لا يسكر‏.‏ وذهب الإمام النّوويّ إلى الجزم بحرمتها فقال‏:‏ المذهب الصّحيح تحريم الخمر للتّداوي‏.‏

حكم سقيها لغير المكلّفين

29 - يحرم على المسلم المكلّف أن يسقي الخمر الصّبيّ، أو المجنون، فإن أسقاهم فالإثم عليه لا على الشّارب، ولا حدّ على الشّارب، لأنّ خطاب التّحريم متوجّهٌ إلى البالغ العاقل‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الخمر أمّ الخبائث» وقال‏:‏ «لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها»‏.‏ ويحرم أيضاً على المسلم أن يسقي الخمر للدّوابّ صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة‏.‏

الاحتقان أو الاستعاط بالخمر

30 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً الاحتقان بالخمر ‏(‏بأخذها حقنةً شرجيّةً‏)‏ أو جعلها في سعوطٍ، لأنّه انتفاعٌ بالمحرّم النّجس، ولكن لا يجب الحدّ، لأنّ الحدّ مرتبطٌ بالشّرب، فهو سبب تطبيق الحدّ‏.‏ ويلاحظ - كما سبق - أنّه يستوجب عقوبةً أخرى زاجرةً بطريق التّعزير‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الاحتقان بها يعتبر حراماً‏.‏ وخلافهم مع الحنفيّة إنّما هو في التّسمية، فالحنفيّة يسمّون ما طلب الشّارع تركه على وجه الحتم والإلزام بدليلٍ ظنّيٍّ مكروهاً تحريماً، والجمهور يسمّونه حراماً‏.‏ وهم يوافقون الحنفيّة في أنّه لا حدّ في حالة الاحتقان بالخمر، لأنّ الحدّ للزّجر، ولا حاجة للزّجر في هذه الحالة، لأنّ النّفس لا ترغب في مثل ذلك عادةً‏.‏ ولكنّ الحنابلة قالوا بوجوب الحدّ في حالة الاستعاط، لأنّ الشّخص أوصل الخمر إلى باطنه من حلقه‏.‏

حكم مجالسة شاربي الخمر

31 - يحرم مجالسة شرّاب الخمر وهم يشربونها، أو الأكل على مائدة يشرب عليها شيءٌ من المسكرات خمراً كان أو غيره، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يقعد على مائدةٍ يشرب عليها الخمر»‏.‏

نجاسة الخمر

32 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الخمر نجسةٌ نجاسةً مغلّظةً، كالبول والدّم لثبوت حرمتها وتسميتها رجساً‏.‏ كما ورد في القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ والرّجس في اللّغة‏:‏ الشّيء القذر والنّتن‏.‏ أمّا الأشربة الأخرى المختلف فيها فالحكم بالحرمة يستتبع عندهم الحكم بنجاستها‏.‏ وذهب بعض الفقهاء، منهم ربيعة شيخ مالكٍ والصّنعانيّ والشّوكانيّ، إلى طهارتها، تمسّكاً بالأصل، وحملوا الرّجس في الآية على القذارة المعنويّة‏.‏ أمّا البهيمة إذا سقيت خمراً، فهل تحلّ أو تحرم لأجل الخمر ‏؟‏ في المسألة تفصيلٌ ينظر في مصطلح ‏(‏أطعمةٌ‏)‏‏.‏

أثر تخلّل الخمر وتخليلها

33 - إذا تخلّلت الخمر بنفسها بغير قصد التّخليل يحلّ ذلك الخلّ بلا خلافٍ بين الفقهاء‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نعم الأدم الخلّ»‏.‏ ويعرف التّخلّل بالتّغيّر من المرارة إلى الحموضة، بحيث لا يبقى فيها مرارةٌ أصلاً عند أبي حنيفة، حتّى لو بقي فيها بعض المرارة لا يحلّ شربها، لأنّ الخمر عنده لا تصير خلاًّ إلاّ بعد تكامل معنى الخليّة فيه‏.‏ كما لا يصير العصير خمراً إلاّ بعد تكامل معنى الخمريّة‏.‏ وقال الصّاحبان‏:‏ تصير الخمر خلاًّ بظهور قليلٍ من الحموضة فيها، اكتفاءً بظهور الخلّيّة فيه، كما أنّ العصير يصير خمراً بظهور دليل الخمريّة، كما أشرنا في بيان مذهبهما‏.‏

تخليل الخمر بعلاجٍ

34 - قال الشّافعيّة والحنابلة، وهو روايةٌ عن مالكٍ لا يحلّ تخليل الخمر بالعلاج كالخلّ والبصل والملح، أو إيقاد نارٍ عندها، ولا تطهر حينئذٍ، لأنّنا مأمورون باجتنابها، فيكون التّخليل اقتراباً من الخمر على وجه التّموّل، وهو مخالفٌ للأمر بالاجتناب، ولأنّ الشّيء المطروح في الخمر يتنجّس بملاقاتها فينجّسها بعد انقلابها خلاًّ، ولأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أمر بإهراق الخمر بعد نزول آية المائدة بتحريمها‏.‏ وعن «أبي طلحة أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن أيتامٍ ورثوا خمراً، فقال‏:‏ أهرقها، قال‏:‏ أفلا أخلّلها ‏؟‏ قال‏:‏ لا»

وعن ابن عبّاسٍ «أهدى رجلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم راوية خمرٍ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما علمت أنّ اللّه حرّمها ‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فسارّه رجلٌ إلى جنبه، فقال‏:‏ بم ساررته ‏؟‏ فقال‏:‏ أمرته أن يبيعها، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الّذي حرّم شربها حرّم بيعها، ففتح الرّجل المزادتين حتّى ذهب ما فيهما»‏.‏ فقد أراق الرّجل ما في المزادتين بحضرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، ولو جاز تخليلها لما أباح له إراقتها، ولنبّهه على تخليلها‏.‏ وهذا نهيٌ يقتضي التّحريم، ولو كان إلى استصلاحها سبيلٌ مشروعٌ لم تجز إراقتها، بل أرشدهم إليه، سيّما وهي لأيتامٍ يحرم التّفريط في أموالهم‏.‏ واستدلّوا أيضاً بإجماع الصّحابة - كما يقولون - فقد روى أسلم عن عمر رضي الله عنه أنّه صعد المنبر فقال‏:‏‏(‏لا تأكل خلاًّ من خمرٍ أفسدت، حتّى يبدأ اللّه تعالى إفسادها، وذلك حين طاب الخلّ، ولا بأس على امرئٍ أصاب خلاًّ من أهل الكتاب أن يبتاعه ما لم يعلم أنّهم تعمّدوا إفسادها فعند ذلك يقع النّهي‏)‏‏.‏ وهذا قولٌ يشتهر بين النّاس لأنّه إعلانٌ للحكم بين النّاس على المنبر، فلم ينكر أحدٌ‏.‏ وبه قال الزّهريّ‏.‏ وظاهر الرّواية عند الحنفيّة، والرّاجح عند المالكيّة أنّه يحلّ شربها، ويكون التّخليل جائزاً أيضاً، لأنّه إصلاحٌ، والإصلاح مباحٌ، قياساً على دبغ الجلد، فإنّ الدّباغ يطهّره، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أيّما إهابٍ دبغ فقد طهر» وقال عن جلد الشّاة الميتة‏:‏ «إنّ دباغها يحلّه كما يحلّ خلٌّ الخمر» فأجاز النّبيّ صلى الله عليه وسلم التّخليل، كما ثبت حلّ الخلّ شرعاً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم أيضاً‏:‏ «خير خلّكم خلّ خمركم» وبدليل قوله الّذي سبق ذكره أيضاً‏:‏ «نعم الأدم الخلّ»، فإنّه لم يفرّق بين التّخلّل بنفسه والتّخليل، فالنّصّ مطلقٌ‏.‏ ولأنّ التّخليل يزيل الوصف المفسد، ويجعل في الخمر صفة الصّلاح، والإصلاح مباحٌ، لأنّه يشبه إراقة الخمر‏.‏ وفي روايةٍ ثالثةٍ عن مالكٍ - وهي المشهورة - أنّه على سبيل الكراهة‏.‏

تخليل الخمر بنقلها، أو بخلطها بخلٍّ

35 - إذا نقلت الخمر من الظّلّ إلى الشّمس، أو بالعكس، ولو بقصد التّخليل، فتخلّلت يحلّ الخلّ الحاصل عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏.‏ والصّحيح عند الحنفيّة‏:‏ أنّه لو وقعت الشّمس على الخمر بلا نقلٍ، كرفع سقفٍ كان فوقها، لا يحلّ نقلها‏.‏ وعلّل الشّافعيّة الحلّ بقولهم‏:‏ لأنّ الشّدّة المطربة ‏(‏أي الإسكار‏)‏ الّتي هي علّة النّجاسة والتّحريم، قد زالت من غير أن تعقّب نجاسةً في الوعاء، فتطهر‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إن نقلت الخمر من موضعٍ إلى آخر، فتخلّلت من غير أن يلقى فيها شيءٌ، فإن لم يكن قصد تخليلها حلّت بذلك، لأنّها تخلّلت بفعل اللّه تعالى، وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطهر، لأنّه لا فرق بينهما إلاّ القصد، فلا يقتضي تحريمها‏.‏

ويحتمل ألاّ تطهر، لأنّها خلّلت بفعلٍ، كما لو ألقي فيها شيءٌ‏.‏

إمساك الخمر لتخليلها

36 - اختلفوا في جواز إمساك الخمر بقصد تخليلها‏.‏ فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى جوازه، وهذا الخلّ عندهم حلالٌ طاهرٌ‏.‏ وذهب الحنابلة إلى تحريم إمساك الخمر بقصد تخليلها، لكن يحلّ عندهم للخلاّل إمساك الخمر ليتخلّل، لئلاّ يضيع ماله‏.‏

طهارة الإناء

37 - إذا تخلّلت الخمرة وطهرت - حسب اختلاف أقوال العلماء السّابقة في طهارتها أو نجاستها - فإنّ الإناء الّذي فيه الخمر يطهر أعلاه وأسفله عند أكثرهم‏.‏ وهناك اختلافٌ عند المالكيّة حول طهارة أعلى الإناء، لكن في حاشية الدّسوقيّ الجزم بالطّهارة‏.‏ أمّا الحنفيّة فالمفتى به في مذهبهم أنّ أعلى الإناء يطهر تبعاً‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنّ أعلاه لا يطهر، لأنّه خمرٌ يابسةٌ إلاّ إذا غسل بالخلّ، فتخلّل من ساعته فيطهر‏.‏

إشعارٌ

التعريف

1 - الإشعار‏:‏ الإعلام، يقال أشعر البدنة‏:‏ أعلمها، وذلك بأن يشقّ جلدها، أو يطعنها في سنامها في أحد الجانبين بمبضعٍ أو نحوه، ليعرف أنّها هديٌ‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

التّقليد

2 - التّقليد‏:‏ وهو للبدنة، أن يعلّق في عنقها شيءٌ من نعلٍ أو نحوه، ليعلم أنّها هديٌ، فليس في التّقليد خروج دمٍ‏.‏ والفرق ظاهرٌ‏.‏

صفته الحكم الإجماليّ

3 - اختلف الفقهاء في حكم إشعار بدن الهدي وهي الإبل خاصّةً، فجمهور الفقهاء‏:‏ ‏(‏المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وصاحبا أبي حنيفة‏)‏ على أنّه يسنّ إشعارها، لما روت عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «فتلت قلائد هدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ أشعرها وقلّدها» وفعله الصّحابة، ولأنّه إيلامٌ لغرضٍ صحيحٍ فجاز كالكيّ، والوسم، والفصد، والحجامة، وتشعر البقرة كالإبل لأنّها من البدن‏.‏ وكره أبو حنيفة الإشعار للبدنة، لأنّه مثلةٌ وإيلامٌ، ولم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار، وإنّما كره إشعار أهل زمانه الّذي يخاف منه الهلاك، فأمّا من قطع الجلد دون اللّحم فلا بأس به، وهو مستحبٌّ لمن أحسنه‏.‏

مواطن البحث

4 - أورد بعض الفقهاء مسألة إشعار البدن في الحجّ عند الكلام عن الهدي، والبعض الآخر عند الكلام عن النّيّة عند الإحرام‏.‏

إشلاءٌ

التعريف

1 - الإشلاء في اللّغة مصدر‏:‏ أشلى الكلب إذا دعاه باسمه، أمّا من قال‏:‏ أشليت الكلب على الصّيد، فإنّما معناه‏:‏ دعوته فأرسلته على الصّيد‏.‏ وقد ثبتت صحّة إشلاء الكلب بمعنى إغرائه، والمراد به التّسليط على أشلاء الصّيد، وهي أعضاؤه‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للإشلاء عن معنى الإغراء والتّسليط عليه‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الزّجر‏:‏

2 - الزّجر يكون بمعنى‏:‏ النّهي والمنع بلفظٍ، يقال‏:‏ زجرته فانزجر، ويقال‏:‏ زجر الصّيّاد الكلب‏:‏ أي صاح به فانزجر، أي منعه عن متابعة الصّيد فامتنع، فالزّجر على هذا ضدّ الإشلاء‏.‏

صفته الحكم الإجماليّ

3 - استجابة الكلب للإشلاء - بمعنى الدّعاء - لا يكون علامةً على كون الجارح معلّماً، وخاصّةً الكلب، لأنّه ألوفٌ يأتي إلى صاحبه بمجرّد الدّعاء، وعلامة التّعلّم هنا‏:‏ أن يأتي بما يكون مخالفاً لطبعه‏.‏ أمّا استجابة الكلب للإشلاء - بمعنى التّسليط والزّجر - فقد عدّه جمهور الفقهاء من علامة كون الكلب معلّماً، بحيث يستجيب لهذا الإشلاء، فينفّذ ما يريده صاحبه‏.‏

مواطن البحث

4 - استعمل الفقهاء الإشلاء في باب الصّيد عند الكلام عن شروط حلّ الصّيد‏.‏

إشهاد

التعريف

1 - الإشهاد في اللّغة‏:‏ مصدر أشهد، وأشهدته على كذا فشهد عليه أي‏:‏ صار شاهداً، وأشهدني عقد زواجه‏:‏ أي أحضرني‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء للإشهاد عن هذين المعنيين‏.‏ وسيقتصر البحث على الإشهاد بالمعنى الأوّل وهو‏:‏ طلب تحمّل الشّهادة‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الشّهادة‏:‏

2 - قد تكون الشّهادة دون سبق إشهادٍ، تحصل بطلبٍ أو دونه، والإشهاد هو طلب تحمّل الشّهادة‏.‏

ب - الاستشهاد‏:‏

3 - الاستشهاد يأتي بمعنى الإشهاد، أي طلب تحمّل الشّهادة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان‏}‏ وقد يأتي الاستشهاد بمعنى طلب أداء الشّهادة‏.‏ كما يأتي الاستشهاد بمعنى أن يقتل في سبيل اللّه‏.‏

ج - الإعلان ‏(‏والإشهار‏)‏

4 - قد يتحقّق الإعلان دون الإشهاد، كما لو أعلنوا النّكاح بحضرة صبيانٍ، أو أمام نساءٍ‏.‏ وقد يتحقّق الإشهاد دون الإعلان، كإشهاد رجلين على النّكاح واستكتامهما‏.‏

صفته ‏"‏ حكمه التّكليفيّ

5 - الإشهاد تعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً كما في النّكاح، ويكون مندوباً، كالإشهاد في البيع عند أكثر الفقهاء، وجائزاً كما في البيع عند البعض، ومكروهاً كالإشهاد على العطيّة، أو الهبة للأولاد إن حصل فيها تفاوتٌ عند البعض، وحراماً كالإشهاد على الجور وذهبت طائفةٌ من أهل العلم إلى إيجاب الإشهاد في كلّ ما ورد الأمر به‏.‏

مواطن الإشهاد

رجوع الأجنبيّ بقيمة ما جهّز به الميّت إذا أشهد

6 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى أنّ الأجنبيّ أو الغريب - الّذي لا يلزمه تجهيز الميّت - لو كفّن الميّت كفن المثل، وكذا كلّ ما يلزمه، فإنّه يرجع بقيمة ما دفع إن نوى الرّجوع، وأشهد بذلك، غير أنّ الإشهاد عند الشّافعيّة لا يعتدّ به إلاّ بعد العجز عن استئذان الحاكم، وكان مال الميّت غائباً، أو امتنع من يلزمه تجهيز الميّت عن ذلك‏.‏ وعند الحنابلة‏:‏ لا يشترط الإشهاد للرّجوع، ويرجع إن نوى الرّجوع، أشهد أو لم يشهد، استأذن الحاكم أو لا، ولم أقف على حكم اشتراط الإشهاد عند المالكيّة‏.‏

الإشهاد على إخراج زكاة الصّغير

7 - أغلب الفقهاء ممّن أوجبوا الزّكاة في مال الصّغير لا يطلبون الإشهاد على إخراجها‏.‏ ويشهد الوصيّ عند ابن حبيبٍ من المالكيّة على إخراج زكاة مال الصّغير، فإن لم يشهد وكان مأموناً صدّق، وغير المأمون هل يلزمه غرم المال أو يحلف ‏؟‏ لم يجد الخطّاب فيه نصّاً‏.‏ وكالزّكاة عنده زكاة الفطر‏.‏

الإشهاد في البيع الإشهاد على عقد البيع

8 - الإشهاد على عقد البيع أقطع للنّزاع، وأبعد عن التّجاحد، لذلك ينبغي الإشهاد عليه عند عامّة الفقهاء‏.‏ إلاّ أنّهم يختلفون في حكمه التّكليفيّ، ولهم في ذلك ثلاثة آراءٍ‏:‏

أ - ندب الإشهاد فيما له خطرٌ‏:‏ وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو ما جاء في بعض كتب الشّافعيّة، واستدلّوا على ذلك بقول اللّه سبحانه‏:‏ ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ حملوا الأمر على النّدب، وصرفه عن الوجوب عندهم أدلّةٌ كثيرةٌ منها‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديٍّ طعاماً بنسيئةٍ فأعطاه درعاً له رهناً»،«واشترى من رجلٍ سراويل، ومن أعرابيٍّ فرساً فجحده الأعرابيّ حتّى شهد له خزيمة بن ثابتٍ»، ولم ينقل أنّه أشهد في شيءٍ من ذلك، ولأنّ الصّحابة كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالإشهاد ولا نقل عنهم فعله‏.‏ أمّا الأشياء القليلة الخطر كحوائج البقّال والعطّار وشبههما، فلا يستحبّ ذلك فيها، لأنّ العقود تكثر فيشقّ الإشهاد عليها وتقبح إقامة البيّنة عليها، والتّرافع إلى الحاكم من أجلها، بخلاف الكبيرة الخطر‏.‏

ب - جواز الإشهاد، وهو قول الشّافعيّة، قالوا‏:‏ إنّ الأمر في الآية للإرشاد، لا ثواب فيه إلاّ لمن قصد الامتثال‏.‏

ج - وجوب الإشهاد‏:‏ وهو قول طائفةٍ من أهل العلم، روي ذلك عن ابن عبّاسٍ، وممّن رأى وجوب الإشهاد على البيع عطاءٌ، وجابر بن زيدٍ، والنّخعيّ لظاهر الأمر، ولأنّه عقد معاوضةٍ فيجب الإشهاد عليه كالنّكاح‏.‏

طلب الإشهاد من الوكيل بالبيع

9 - ذهب الحنفيّة، والشّافعيّة إلى أنّ الموكّل لو أمر الوكيل بالبيع والإشهاد، فباع ولم يشهد، فالبيع جائزٌ، لأنّه أمره بالبيع مطلقاً، وأمره بالإشهاد كان معطوفاً على الأمر بالبيع، فلا يخرج به الأمر بالبيع من أن يكون مطلقاً، ألا ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ أمر بالإشهاد على البيع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ ثمّ من باع ولم يشهد كان بيعه جائزاً، أمّا إذا شرط عليه الإشهاد، كقوله‏:‏ بع بشرط أن تشهد فقد قال الشّافعيّة‏:‏ إنّه يوجب الإشهاد ولا يلزم الموكّل بدونه إلاّ بإجازته‏.‏ ولم أقف على حكم هذه المسألة عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

الإشهاد على بيع مال الصّغير نسيئةً

10 - ذهب الشّافعيّة،والحنابلة إلى أنّه يجب الإشهاد على بيع مال الصّغير نسيئةً خوف جحده، قال الشّافعيّة‏:‏ ولو ترك الإشهاد بطل البيع على المعتمد، فإن عسر الإشهاد كأن كان يبيع الوصيّ أو الأمين شيئاً فشيئاً من مال الصّغير، فإنّه يقبل قولهما، فإن باعا مقداراً كبيراً جملةً فلا بدّ من الإشهاد‏.‏ ولا يجب الإشهاد عند الحنفيّة على بيع مال الصّغير نسيئةً، وهو قول المالكيّة بالنّسبة للأب، أمّا الوصيّ ففيه قولان‏.‏ أحدهما يصدّق بلا بيّنةٍ، والثّاني تلزمه البيّنة‏.‏

الإشهاد على سائر العقود

11 - الإشهاد على سائر العقود والتّصرّفات حكمه حكم الإشهاد على البيع عند الحنفيّة والشّافعيّة، باستثناء النّكاح عندهما، والرّجعة عند الشّافعيّة، فالإشهاد واجبٌ وسيأتي تفصيل ذلك‏.‏ وعند المالكيّة سائر الحقوق والمداينات كالبيع يسنّ الإشهاد فيها ما لم يتعلّق بها حقٌّ للغير فيجب، وكذا إن لم يتعلّق بها حقٌّ للغير وطلب الإشهاد أحد العاقدين‏.‏ وذكر التّسوّليّ في شرح التّحفة ما يفيد وجوب الإشهاد في عقود التّبرّعات كالوقف، والهبة، والوصيّة، وكذلك كلّ ما كان من غير عوضٍ كالتّوكيل والضّمان ونحوهما، حيث جعل الإشهاد في هذه شرط صحّةٍ‏.‏

الإشهاد عند الامتناع عن تسليم وثيقة الدّين

12 - لو كان لرجلٍ حقٌّ على آخر بوثيقةٍ، فدفع الّذي عليه الحقّ ما عليه، وطلب الوثيقة منه أو حرقها، فالمالكيّة والحنابلة على أنّه لا يلزم دفع الوثيقة، وإنّما للمدين أن يشهد على صاحب الدّين وتبقى الوثيقة بيده، لأنّه يدفع بها عن نفسه، إذ لعلّ الّذي كان عليه الدّين أن يستدعي بيّنةً قد سمعوا إقرار صاحب الدّين بقبضه منه، أو حضروا دفعه إليه، ولم يعلموا على أيّ وجهٍ كان الدّفع، فيدّعي أنّه إنّما دفع إليه ذلك المال سلفاً أو وديعةً، ويقول‏:‏ هات بيّنةً تشهد لك أنّ ما قبضت منّي هو من حقٍّ واجبٍ لك، فبقاء الوثيقة وقيامه بها يسقط هذه الدّعوى الّتي تلزمه، وقال الحنابلة‏:‏ لأنّه ربّما خرج ما قبضه مستحقّاً فيحتاج إلى حجّةٍ بحقّه، قالوا‏:‏ ولا يجوز لحاكمٍ إلزامه‏.‏ وقال عيسى بن دينارٍ وأصبغ‏:‏ له أخذ الوثيقة، وبه قال شارح المنتهى من الحنابلة ولم نقف على حكم ذلك عند فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏

الإشهاد على قضاء الدّين عن الغير

13 - لو قضى الرّجل دين غيره ونوى الرّجوع فإنّ جمهور الفقهاء لا يشترطون الإشهاد على قضاء الدّين ونيّة الرّجوع‏.‏ وقال القاضي من الحنابلة‏:‏ الإشهاد على نيّة الرّجوع شرطٌ للرّجوع، لأنّ العرف جرى على أنّ من دفع دين غيره من غير إشهادٍ كان متبرّعاً‏.‏

الإشهاد على ردّ المرهون

14 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الصّحيح عندهم إلى أنّ المرتهن لو ادّعى ردّ العين المرهونة وأنكر الرّاهن، فالقول قول الرّاهن، ولا يصدّق المرتهن إلاّ ببيّنةٍ‏.‏ وقواعد الحنفيّة تقضي بقبول قول المرتهن، لأنّه أمينٌ، والأمين مصدّقٌ فيما يدّعيه، ويوافق الحنابلة - في مقابل الأصحّ - في هذا الحنفيّة‏.‏

الإشهاد عند إقراض مال الصّغير

15 - يشترط الإشهاد على إقراض الوليّ مال الصّغير عند الشّافعيّة، أمّا عند بقيّة الفقهاء الّذين أجازوا تسليف مال الصّغير، فيجوز عندهم الإقراض بلا إشهادٍ، وإن كان الإشهاد حينئذٍ أولى احتياطاً‏.‏

الإشهاد على الحكم بالحجر

16 - للفقهاء في الإشهاد على الحجر رأيان‏:‏

أحدهما‏:‏ الوجوب، وهو قول الصّاحبين من الحنفيّة في الحجر على المدين، وإنّما وجب الإشهاد لأنّ الحجر حكمٌ من القاضي ويتعلّق به أحكامٌ، وربّما يقع فيه التّجاحد فيحتاج إلى إثباته، ويأخذ السّفيه حكم المدين في الحجر وما يترتّب عليه، أمّا أبو حنيفة فإنّه يمنع الحجر عليهما، وإن كان يرى الحجر على من يترتّب على تصرّفاته ضررٌ عامٌّ، كالطّبيب الجاهل والمفتي الماجن والمكاري المفلّس‏.‏ ووجوب الإشهاد هو ما يؤخذ من قواعد المالكيّة، وفروعهم‏.‏ جاء في الحطّاب‏:‏ من أراد أن يحجر على ولده أتى الإمام ليحجر عليه، ويشهر ذلك في المجامع والأسواق، ويشهد على ذلك ولأنّه يتعلّق به حقٌّ للغير فوجب الإشهاد عليه‏.‏ ووجوب الإشهاد وجهٌ محكيٌّ عند الشّافعيّة في الحاوي والمستظهري عن أبي عليّ بن أبي هريرة في حجر السّفيه، ووصفوه بأنّه شاذٌّ‏.‏

الثّاني‏:‏ استحباب الإشهاد، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة، سواءٌ أكان الحجر لمصلحة الإنسان نفسه أم بسبب الدّين‏.‏ والحاكم هو الّذي يشهد‏.‏

الإشهاد على فكّ الحجر

17 - الصّبيّ إذا بلغ رشيداً، وكان وليّه هو الأب فلا يحتاج في فكّ الحجر إلى إشهادٍ‏.‏ لأنّه وليّه بحكم الشّرع‏.‏ أمّا إذا بلغ سفيهاً فالحجر عليه وفكّه عنه من القاضي، ولا بدّ فيه من إشهادٍ أمّا إذا كان القائم عليه الوصيّ المختار أو الوصيّ من القاضي فإنّه يحتاج في فكّ الحجر عنه إلى الإشهاد والإشهار، لأنّ ولايتهما مستمدّةٌ من القاضي‏.‏

الإشهاد على دفع المال إلى الصّغير بعد بلوغه

18 - للفقهاء في الإشهاد على تسليم مال الصّغير إذا بلغ رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ وجوب الإشهاد، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة، وبه قال مالكٌ، وابن القاسم، عملاً بظاهر الأمر في قوله تعالى ‏{‏فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم‏}‏، ولا يصدّق الدّافع في دعوى ردّ مال الصّغير حتّى يشهد‏.‏

الثّاني‏:‏ استحباب الإشهاد، وهو قول الحنفيّة، والحنابلة، للاحتياط لكلّ واحدٍ من اليتيم ووليّ ماله، وهو قولٌ ضعيفٌ للشّافعيّة، فأمّا اليتيم، فلأنّه إذا قامت عليه البيّنة كان أبعد من أن يدّعي ما ليس له، وأمّا الوصيّ فلأنّه يبطل دعوى اليتيم بأنّه لم يدفعه إليه‏.‏ ويصدّق في دعوى الرّدّ عند أبي حنيفة وأصحابه وعند الشّافعيّة في مقابل الصّحيح‏.‏ وقريبٌ من قول الحنفيّة والحنابلة، قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم من المالكيّة، أنّه يصدّق الوصيّ بيمينه وإن لم يشهد ولو طال الزّمان، على ما هو المعروف من المذهب، وفي الموّازيّة‏:‏ إن طال الزّمان كعشرين سنةً يقيمون معه ولا يطلبون، فالقول قوله بيمينه، لأنّ العرف قبض أموالهم إذا رشدوا، وجعل ابن زربٍ الطّول ثمانية أعوامٍ‏.‏

الإشهاد على ما وكّل في قبضه

19 - عند تنازع الوكيل والموكّل في دعوى على ما وكّل في قبضه، فالوكيل كالمودع عند الحنفيّة في أنّه أمينٌ، إلاّ الوكيل بقبض الدّين إذا ادّعى بعد موت الموكّل أنّه قبضه ودفعه في حال حياته، لم يقبل قوله إلاّ ببيّنةٍ، والوكيل كالمودع أيضاً عند الاختلاف في الرّدّ عند المالكيّة والشّافعيّة، وكذا الوكيل بغير أجرٍ عند الحنابلة لا يختلف عن المودع يقبل قوله بلا إشهادٍ، فإن كان وكيلاً بأجرٍ ففيه وجهان ذكرهما أبو الخطّاب، وهو قولٌ ضعيفٌ للشّافعيّة‏.‏

إشهاد الوكيل بقضاء الدّين ونحوه

20 - يتّفق الفقهاء على أنّ الموكّل إذا دفع للوكيل مالاً وأمره بقضاء الدّين وبالإشهاد على القضاء، ففعل ولم يشهد، وأنكر المستحقّ، فالوكيل يضمن ويصدّق المستحقّ، فإن أمره بقضاء الدّين ولم يأمره بالإشهاد فقال‏:‏ قبضته، وأنكر المستحقّ، فإنّ المستحقّ يصدّق باتّفاقٍ، ولا يقبل قول الوكيل على الغريم، وله مطالبة الموكّل، لأنّ ذمّته لا تبرأ بالدّفع إلى وكيله‏.‏ وتفصيل ذلك في ‏(‏الوكالة والشّهادة‏)‏‏.‏

الإشهاد على الوديعة إشهاد المودع

21 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه يستحبّ الإشهاد عند تسليم الوديعة إلى الوديع للاستيثاق، قياساً على البيع‏.‏ وظاهر نصوص الحنابلة الجواز‏.‏

الإشهاد على ردّ الوديعة إلى مالكها

22 - فقهاء الحنفيّة والحنابلة والأصحّ عند الشّافعيّة، لا يلزم عندهم أن يشهد المودع على ردّ الوديعة إلى مالكها، لأنّه مصدّقٌ في الرّدّ على المودع فلا فائدة في الإشهاد، وعدم لزوم الإشهاد قول المالكيّة إن كان المودع أخذها دون إشهادٍ، فإن أخذها بإشهادٍ فإنّه لا يبرأ في دعوى الرّدّ إلاّ ببيّنةٍ، لأنّه حين أشهد عليه لم يكتف بأمانته، ولا بدّ أن تكون البيّنة مقصودةً للتّوثّق، أمّا إذا دفعها أمام شهودٍ، ولم يشهد عليها، فليس بشهادةٍ حتّى يقول‏:‏ اشهدوا بأنّي استودعته كذا وكذا‏.‏ ولو تبرّع الوديع بالإشهاد على نفسه فلا يبرأ إلاّ بإشهادٍ‏.‏ ولزوم الإشهاد على الرّدّ - إن أخذها المودع بإشهادٍ - روايةً عن أحمد، وخرّجها ابن عقيلٍ على أنّ الإشهاد على دفع الحقوق الثّابتة بالبيّنة واجبٌ، فيكون تركه تفريطاً فيجب فيه الضّمان‏.‏ فإذا قال المودع‏:‏ لا أردّ حتّى تشهد، فمن قال يقبل قوله بيمينه - وهم الشّافعيّة في وجهٍ، وروايةً عن أحمد - وذلك حيث يكون عليه بيّنةٌ الوديعة - فليس له التّأخير حتّى يشهد، لوجود ما يبرّئ به ذمّته، وهو قبول قوله بيمينه‏.‏

الإشهاد في الرّدّ على رسول المالك أو وكيله

23 - ذهب المالكيّة، وهو ما صحّحه البغويّ من الشّافعيّة إلى أنّ الوديع إن ردّ الوديعة على رسول المالك أو وكيله فله التّأخير حتّى يشهد، فإن لم يشهد فلا يصدّق في دعوى التّسليم إلى الرّسول أو الوكيل‏.‏ وذهب الحنابلة، وهو ما صحّحه الغزاليّ من الشّافعيّة إلى أنّه يصدّق بيمينه ولو لم يشهد‏.‏ ولم يصرّح الحنفيّة بالإشهاد في الرّدّ على الوكيل، لكنّهم قالوا‏:‏ يضمن المودع إن سلّم الوديعة دون عذرٍ لغير المالك، ومن لم يكن من عيال الوديع الّذين يحفظ بهم ماله عادةً‏.‏ وهذا يدلّ على أنّ الأولى الإشهاد ليدرأ الضّمان عن نفسه في حال الجحود‏.‏

الإشهاد عند قيام بعض الأعذار بالمودع

24 - المالكيّة يلزمون بالإشهاد على الأعذار الّتي تمنع من بقاء الوديعة تحت يده، ويكون بمعاينة العذر، ولا يكفي قوله‏:‏ اشهدوا أنّي أودعها لعذرٍ‏.‏ ولا يخالف الحنفيّة في وجوب الإشهاد على الأعذار، إذ لا يصدّق المودع عندهم إن دفعها لأجنبيٍّ لعذرٍ إلاّ ببيّنةٍ‏.‏ وعند الشّافعيّة إن تعذّر الرّدّ إلى المالك فإنّه يسلّمها إلى القاضي، ويشهد القاضي على نفسه بقبضها كما قاله الماورديّ، والمعتمد خلافه، فإن فقد القاضي سلّمها لأمينٍ‏.‏ وهل يلزمه الإشهاد عليها ‏؟‏ وجهان حكاهما الماورديّ أوجههما عدمه‏.‏ كما في مسألة القاضي‏.‏ هذا إن أراد سفراً والحريق والإغارة عذران كالسّفر‏.‏ فإذا مرض مرضاً مخوفاً، وعجز عن الرّدّ إلى الحاكم أو الأمين، أشهد وجوباً على الإيصاء بها إليهما‏.‏

ولم ينصّ الحنابلة على الإشهاد عند قيام الأعذار بالمودع، ولا يضمن المودع عندهم إن سلّمها لأجنبيٍّ لعلّةٍ، كمن حضره الموت أو أراد سفراً‏.‏

الإشهاد في الشّفعة

25 - الشّفيع إمّا أن يكون حاضراً وقت البيع أو غائباً، فإن كان حاضراً فإنّه يلزمه لثبوت الشّفعة طلبها على الفور، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ على أنّ الحنفيّة قالوا‏:‏ إنّ الأصل إشهاد الشّفيع على طلب المواثبة للتّوثيق، وهذا الإشهاد على الطّلب ليس شرطاً للثّبوت، لكن ليتوثّق حقّ الشّفعة إذا أنكر المشتري طلبها‏.‏ وإنّما يصحّ طلب الإشهاد بحضرة المشتري أو البائع أو المبيع‏.‏ ثمّ طلب الإشهاد مقدّرٌ بالتّمكّن من الإشهاد، فمتى تمكّن من الإشهاد عند حضرة واحدٍ من هذه الأشياء، ولم يطلب الإشهاد، بطلت شفعته نفياً للضّرر عن المشتري‏.‏ وإنّما يحتاج إلى طلب المواثبة، ثمّ إلى طلب الإشهاد بعده، إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة، بأن سمع الشّراء حال غيبته عن المشتري والبائع والدّار، أمّا إذا سمع عند حضرة أحد هؤلاء الثّلاث، وأشهد على ذلك، فذلك يكفيه، ويقوم مقام الطّلبين‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة إن كان الشّفيع في البلدة فلا يلزمه الإشهاد على الطّلب، بل يكفيه الطّلب وحده، وإن كان غائباً فالحنابلة كالحنفيّة في لزوم طلب الشّفعة والإشهاد عليه، فإن لم يفعل سقط حقّه، سواءٌ قدر على التّوكيل أم عجز عنه، سار عقيب العلم أو أقام‏.‏ وعند الشّافعيّة إن كان الشّفيع غائباً يلزمه الطّلب، فإن عجز فإنّه يلزمه التّوكيل، فإن عجز عن التّوكيل فليشهد، ولا يكفي الإشهاد عن الطّلب والتّوكيل عند القدرة عليهما‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه ليس الإشهاد شرطاً لثبوت حقّ الشّفعة للشّفيع، بل يثبت حقّه ولو لم يشهد‏.‏

إلاّ أنّهم صرّحوا بسقوط شفعته بالآتي‏:‏

أ - سكوته عن المطالبة مع علمه بهدم المشتري أو بنائه أو غرسه‏.‏

ب - أن يحضر الشّفيع عقد البيع ويشهد عليه ويسكت - بلا مانعٍ - شهرين‏.‏

ج - أن يحضر العقد ولا يشهد ويسكت - بلا عذرٍ - سنةً من يوم العقد‏.‏

تأخير الرّدّ للإشهاد

26 - من كان تحت يده عينٌ لغيره، إمّا أن يقبل قوله عند التّجاحد في الرّدّ أو لا، فإن كان يقبل قوله كالأمانة ففي تأخير الرّدّ ثلاثة آراءٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ منع التّأخير، وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، والصّحيح عند الحنابلة‏.‏ ولا يخالف جمهور المالكيّة في هذا، فإن أخّره ضمن عند الهلاك عند الأئمّة الثّلاثة‏.‏

الثّاني‏:‏ جواز التّأخير للإشهاد، لأنّ البيّنة تسقط اليمين عن الرّادّ، وهو قول ابن عبد السّلام من المالكيّة، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة، ومقابل الصّحيح عند الحنابلة، قالوا وهو قويٌّ خصوصاً في هذه الأزمنة‏.‏ فإن كان صاحب اليد لا يقبل قوله في الرّدّ إلاّ ببيّنةٍ كالغصب، فإنّ له التّأخير للإشهاد عند المالكيّة‏.‏

الثّالث‏:‏ التّفريق بين ما إذا أخذها ببيّنةٍ أو بدون ذلك، فله التّأخير عند الرّدّ حتّى يشهد أنّه أخذها ببيّنةٍ، وهو قول الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ فإن لم تكن عليه بيّنةٌ، فالأصحّ عند البغويّ من الشّافعيّة التّأخير نصّاً‏.‏ وعند الحنابلة لا فرق بينه وبين من يؤخذ قوله بيمينه‏.‏ ومن تتبّع فروع الحنفيّة نجد أنّهم يمنعون تأخير الرّدّ للإشهاد، سواءٌ أكانت اليد يد ضمانٍ أم يد أمانةٍ، ولم نر عندهم من يقول بالتّأخير للإشهاد‏.‏

قيام الإشهاد مقام القبض في الهبة

27 - ذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الوليّ لو وهب لمحجوره شيئاً، وأشهد على نفسه، فالهبة تامّةٌ، والإشهاد يغني عن القبض‏.‏ واستدلّوا على ذلك بما رواه مالكٌ عن الزّهريّ عن ابن المسيّب أنّ عثمان رضي الله عنه قال‏:‏‏(‏من نحل ولداً له صغيراً لم يبلغ أن يحوز نحلته، فأعلن ذلك وأشهد على نفسه فهي جائزةٌ‏)‏، وإنّ وليّها أبوه‏.‏ واستثنى المالكيّة من ذلك الدّار الّتي يسكنهما الواهب، والملبوس الّذي هو لابسه، إذا وهبهما لمحجوره، فإنّه لا يكتفى بالإشهاد على الهبة، بل لا بدّ من إخلائه للدّار، ومثلها الملبوس‏.‏ ولا بدّ من معاينة البيّنة للإخلاء‏.‏ وإن لم تعاين البيّنة الحيازة فالإشهاد بالهبة يغني عن الحيازة فيما لا يسكنه الوليّ ولا تلبسه‏.‏ واستثنوا كذلك ما لا يعرف بعينه، كالمعدود والموزون والمكيل فلا بدّ من حيازته‏.‏ والهبة تتمّ كذلك عند الحنفيّة بالإعلام والإشهاد، إلاّ أنّ الإشهاد ليس شرطاً، وإنّما هو للاحتياط‏.‏ وعند الشّافعيّة يتولّى الأب طرفي العقد‏.‏ وكيفيّة القبض أن ينقله من مكان لآخر‏.‏ ولم أقف على من اشترط الإشهاد من المتأخّرين، لكن جاء في الأمّ‏:‏ أنّ الهبة لا تتمّ إلاّ بأمرين‏:‏ الإشهاد، والقبض، ولا يغني الإشهاد عن القبض‏.‏

الإشهاد على التّصرّف في الموهوب قبل قبضه

28 - ذهب المالكيّة إلى أنّ الموهوب له إذا باع ما اتّهبه أو أعتقه أو وهبه قبل أن يقبضه فإنّ تصرّفه ماضٍ، وفعله ذلك حوزٌ له إذا أشهد على ذلك وأعلن بما فعله‏.‏ وعند الحنفيّة، والشّافعيّة لا يكون الإشهاد بمنزلة القبض، ولا يثبت حكم الهبة إلاّ بقبضها‏.‏ وكذلك الحكم عند الحنابلة في المكيل والموزون اللّذين لا تصحّ هبتهما إلاّ بالقبض عندهم‏.‏ والصّدقة كالهبة عند المالكيّة، فلو دفع مالاً لمن يفرّقه صدقةً على الفقراء والمساكين، ولم يشهد على ذلك، فلم يتصدّق به، واستمرّ المال عنده حتّى مات الواهب، فإنّ الصّدقة تبطل وترجع إلى ورثته‏.‏ أمّا إذا أشهد على ذلك حين دفع المال إلى من يتصدّق به، فإنّ الصّدقة لا تبطل بموت المتصدّق، وترجع للفقراء والمساكين‏.‏ وينطبق على الصّدقة ما ينطبق على الهبة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة من حيث عدم إغناء الإشهاد عن القبض على ما تقدّم‏.‏

الإشهاد في الوقف

29 - عند المالكيّة لو وقف على محجوره، وهو ولده الصّغير الّذي في حجره، أو السّفيه أو الوصيّ على يتيمه فإنّه لا يشترط في حوز الوقف الحوز الحسّيّ، بل يكفي فيه الحوز الحكميّ، وهو أن يشهد على ذلك‏.‏ وسواءٌ أكان الحائز الأب أم الوصيّ أو المقام من قبل الحاكم، فيصحّ الوقف ولو كان تحت يد الحائز إلى موته أو إلى فلسه أو إلى مرضه الّذي مات فيه، إذا توافرت بقيّة الشّروط مع الإشهاد‏.‏ ولا بدّ من معاينة البيّنة لما وقع الإشهاد على وقفه إن كان الوقف على أجنبيٍّ، فلا يكفي إقرار الواقف، لأنّ المنازع للموقوف عليه إمّا الورثة وإمّا الغرباء‏.‏ ولا بدّ أن يشهد الواقف على الوقف قبل حصول المانع للواقف من التّصرّف‏.‏ ولا يشترط أن يقول عند الإشهاد على الوقفيّة‏:‏ رفعت يد الملك ووضعت يد الحوز ونحو ذلك‏.‏ والمذاهب الأخرى لم يتكلّموا عن الإشهاد في الوقف، لعدم اشتراطهم القبض لصحّته‏.‏

الإشهاد على بناء الإنسان لنفسه في أرض الوقف

30 – لو بنى ناظر الوقف لنفسه بمال نفسه في أرض الوقف،أو زرع وأشهد على ذلك فإن الحنفية والحنابلة يعتدون بذلك الإشهاد، ويجعلون البناء والغراس ملكاً للناظر إن أشهد‏.‏ فإن لم يشهد فهو تابع للوقف‏.‏ قال الحنفية‏:‏ولا بد أنيكون الإشهاد قبل البناء والغراس‏.‏ والمالكية لا يجعلون للإشهاد أثر‏.‏ وتفصيل ما يترتب على البناء والغراس يذكر في موطنه الأصلي ‏(‏الوقف‏)‏‏.‏

وعند الشافعية ليس للواقف-والناظر بالأولى-أن يزرع أويبني في أرض الوقف لنفسه، وغرسه وبناؤه فيه بغير الحق، والحال لا يحتاج إلى إشهاد عندهم‏.‏ وتفصيل أحكام البناء والغراس في الوقف ينظر في كتاب الوقف‏.‏

الإشهاد في اللّقطة

31 - ورد في الحديث‏:‏ «من وجد لقطةً فليشهد ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ، ولا يكتم، ولا يغيّب»‏.‏ وهذا أمرٌ بالإشهاد على اللّقطة ليحفظها الإنسان عن نفسه من أن يطمع فيها، وعن ورثته إن مات، وعن غرمائه إن أفلس‏.‏ وفي الأمر الوارد به رأيان‏:‏

أ - استحباب الإشهاد، وهو مذهب الحنابلة، والمذهب عند الشّافعيّة، وهو قول المالكيّة إن خيف أن يدّعيها مع طول الزّمان‏.‏‏.‏ وقد حملوا الحديث السّابق على الاستحباب‏.‏ واستدلّوا على الاستحباب بخبر زيد بن خالدٍ مرفوعاً‏:‏ «أعرّف وكاءها وعفاصها» وحديث أبيّ بن كعبٍ، ولم يؤمر بالإشهاد فيهما، واكتفي بالتعريف، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة‏.‏ فلو كان واجباً لبيّنه النّبيّ، سيّما وقد سئل عن حكم اللّقطة فلم يكن ليخلّ بأمرٍ واجبٍ فيها فيتعيّن حمل الأمر على النّدب في خبر عياضٍ‏.‏ ولأنّه أمانةٌ فلم يفتقر إلى الإشهاد كالوديعة‏.‏

ب - وجوب الإشهاد‏:‏ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ جاء في كتب الحنفيّة‏:‏ أنّ الإشهاد لا بدّ منه عند الإمام‏:‏ وهو قول المالكيّة إن تحقّق الملتقط أو ظنّ أنّه سيجحد اللّقطة‏.‏ ووجوب الإشهاد هو مقابل المذهب عند الشّافعيّة‏.‏ قالوا‏:‏ في الحديث زيادةٌ على بقيّة الأخبار، وهي الأمر بالإشهاد، وزيادة الثّقة مقبولةٌ، والأصل في الأمر الوجوب، ولا منافاة بين هذه الزّيادة وبين بقيّة الأخبار الّتي ليس فيها أمرٌ‏.‏ والإشهاد يكون حين الأخذ إن أمكن، وإلاّ أشهد عند أوّل التّمكّن منه‏.‏

نفي الضّمان مع الإشهاد

32 - يتّفق الفقهاء على أنّ الملتقط لا يضمن اللّقطة إن أشهد عليها‏.‏ فإن لم يشهد فإنّه يضمنها إن تلفت عند جمهور الفقهاء‏.‏ وقال الحنابلة وأبو يوسف‏:‏ لا ضمان على الملتقط سواءٌ أشهد أم لم يشهد‏.‏ وفي البدائع‏:‏ ولا ضمان على الملتقط أشهد أو لم يشهد عند الصّاحبين‏.‏ وعند أبي حنيفة يضمن إن لم يشهد‏.‏ فإن خشي استيلاء ظالمٍ عليها، فقد قال الشّافعيّة‏:‏ إنّه يمتنع الإشهاد ولو أشهد ضمن، وقال الحنفيّة لا يضمن إن لم يشهد خوفاً من استيلاء ظالمٍ عليها، وكذا لا يضمن إن لم يتمكّن من الإشهاد‏.‏

الإشهاد والتعريف

33 - لا يغني الإشهاد عن التعريف عند أكثر الفقهاء، وذهب بعض الحنفيّة إلى أنّه يغني عن التعريف‏.‏

الإشهاد على اللّقيط

34 - لا يختلف حكم الإشهاد على التقاط اللّقيط عن الإشهاد في اللّقطة عند المالكيّة، وعند الشّافعيّة يجب الإشهاد قولاً واحداً، وهو وجهٌ عند الحنابلة، وعليه اقتصرت بعض كتبهم‏.‏ وإنّما فرّقوا بين اللّقطة واللّقيط في الإشهاد، لأنّ اللّقطة الغرض منها المال، والإشهاد في التّصرّف الماليّ مستحبٌّ، والغرض من التقاط اللّقيط حفظ حرّيّته ونسبه، فوجب الإشهاد، كما في النّكاح، ولأنّ اللّقطة يشيع أمرها بالتعريف ولا تعريف في اللّقيط‏.‏ واستظهر ابن قدامة وجوب ضمّ مشرفٍ إلى الملتقط إن كان غير أمينٍ‏.‏

والوجه الثّاني عند الحنابلة‏:‏ استحباب الإشهاد‏.‏ ويجب الإشهاد على ما مع اللّقيط تبعاً له عند الشّافعيّة، ولئلاّ يتملّكه‏.‏ وقيّد الماورديّ وجوب الإشهاد على اللّقيط وعلى ما معه بحالة ما إذا كان هو الملتقط‏.‏ أمّا من سلّمه الحاكم له ليكفله فالإشهاد مستحبٌّ له قطعاً‏.‏

الإشهاد على نفقة اللّقيط

35 - الحنفيّة والشّافعيّة اشترطوا لجواز الرّجوع بما ينفقه الملتقط على اللّقيط الإشهاد على إرادته الرّجوع‏.‏ وقيّد الشّافعيّة ذلك بما إذا لم يتمكّن المنفق من استئذان الحاكم‏.‏ ووجوب الإشهاد هو قول شريحٍ والنّخعيّ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لا يشترط‏.‏ ولا يتأتّى القول بالإشهاد عند المالكيّة، فالملتقط ينفق، ولا يرجع على اللّقيط عندهم، لأنّه بالالتقاط ألزم نفسه‏.‏

الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ

36 - فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة على أنّه يجوز الإشهاد بالباطل للتّوصّل إلى الحقّ في صورٍ ذكروها‏.‏ فعند الحنفيّة‏:‏ الصّغيرة الّتي يزوّجها وليٌّ غير الأب والجدّ، ويثبت لها شرعاً خيار البلوغ في النّكاح على الفور، فإنّها إذا رأت الحيض في اللّيل واختارت الفسخ فوراً، فإنّها حين تشهد في الصّباح على البلوغ تقول‏:‏ بلغت الآن، ضرورة إحياء الحقّ، لأنّ خيار البلوغ يسقط بالتّراخي، فلو أخبرت عن اختيارها متباعداً عن الإشهاد لم تستفد من الخيار‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ يجوز للإنسان إذا لم يكن له وارثٌ معيّنٌ، ولم ينتظم بيت المال أن يتحيّل على إخراج ماله بعد موته في طاعة اللّه، وذلك بأن يشهد في صحّته بشيءٍ من حقوق اللّه تعالى في ذمّته، كزكاةٍ أو كفّاراتٍ وجب إخراجها من رأس المال، ولو أتى على جميعه بعد الحقوق المتعلّقة بالعين‏.‏ وذكر الحنابلة عدّة صورٍ منها‏:‏ ما يسمّى بمسألة إيداع الشّهادة، كأن يقول له الخصم‏:‏ لا أقرّ لك حتّى تبرئني من نصف الدّين أو ثلثه، وأشهد عليك إنّك لا تستحقّ على بعد ذلك شيئاً، فيأتي صاحب الحقّ إلى رجلين فيقول‏:‏ اشهدا أنّي على طلب حقّي كلّه من فلانٍ، وأنّي لم أبرئه من شيءٍ منه، وإنّي أريد أن أظهر مصالحته على بعضه، لأتوصّل بالصّلح إلى أخذ بعض حقّي، وأنّي إذا أشهدت أنّي لا أستحقّ عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهادٌ باطلٌ، وأنّي إنّما أشهدت على ذلك توصّلاً إلى أخذ بعض حقّي، فإذا فعل ذلك جاز له أن يدّعي بقاءه على حقّه، ويقيم الشّهادة بذلك‏.‏ فالإنسان له التّوصّل إلى حقّه بكلّ طريقٍ جائزٍ، وقد توصّل المظلوم إلى حقّه بطريقٍ لم يسقط بها حقّاً لأحدٍ، ولم يأخذ بها ما لا يحلّ له أخذه، فلا خرج بها من حقٍّ، ولا دخل بها في باطلٍ‏.‏ ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجلٍ حقٌّ فيجحده، ويأبى أن يقرّ به حتّى تقرّ له بالزّوجيّة، فتشهد على نفسها أنّها ليست امرأة فلانٍ، وأنّي أريد أن أقرّ له بالزّوجيّة إقراراً كاذباً لا حقيقة له لأتوصّل بذلك إلى أخذ مالي عنده، فاشهدوا أنّ إقراري بالزّوجيّة باطلٌ أتوصّل به إلى أخذ حقّي‏.‏ ومثله أيضاً‏:‏ أن ينكر نسب أخيه، ويأبى أن يقرّ له به حتّى يشهد أنّه لا يستحقّ في تركة أبيه شيئاً، وأنّه قد أبرأه من جميع ماله في ذمّته منها، أو أنّه وهب له جميع ما يخصّه منها، أو أنّه قبضه، أو اعتاض عنه، أو نحو ذلك، فيودع الشّهادة عدلين أنّه باقٍ على حقّه، وأنّه يظهر ذلك الإقرار توصّلاً إلى إقرار أخيه بنسبه، وأنّه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئاً ولا أبرأ أخاه ولا عاوضه ولا وهبه‏.‏

الإشهاد على كتابة الوصيّة

37 - يتّفق الفقهاء على نفاذ الوصيّة إن كتب الموصي وصيّته وأشهد عليها، ثمّ قرأها على المشهود‏.‏ ويختلفون إن كتبها ولم يعلم الشّهود بما فيها، سواءٌ أكتبها ولم يشهد عليها أم كتبها في غيبة الشّهود، ثمّ أشهدهم عليها‏.‏ فإن كتبها مبهمةً ثمّ دعا الشّهود، وقال‏:‏ هذه وصيّتي فاشهدوا على ما في هذا الكتاب، فللفقهاء في نفاذ هذه الوصيّة وعدمه رأيان‏:‏

أحدهما‏:‏ عدم النّفاذ، وبه قال الحنفيّة، والحنابلة، وجمهور الأصحاب من الشّافعيّة‏.‏ وبهذا قال الحسن البصريّ وأبو قلابة وأبو ثورٍ‏.‏ إلاّ أنّ بعض كتب الحنابلة أطلقت هذا القول، وبعضها قيّده بما إذا لم يعرف خطّ الكاتب، وقالوا في تعليل عدم النّفاذ‏:‏ إنّ الحكم لا يجوز برؤية خطّ الشّاهد بالشّهادة بالإجماع فكذا هنا‏.‏

الثّاني‏:‏ أنّ هذا الإشهاد يصحّ وينفذ به الوصيّة وإن لم يقرأها على الشّهود، وهو قول المالكيّة، وقول محمّد بن نصر المروزيّ من الشّافعيّة، وهو قول جماعةٍ من التّابعين منهم سالمٌ وعبد الملك بن يعلى قاضي البصرة‏.‏ فإن كتبها بحضرتهم، وأشهدهم عليها، دون علمٍ بما فيها فإنّها تنفذ عند المالكيّة، وهو روايةٌ عن أبي يوسف إذا أودعه عنده، وهو مذهب أحمد إن عرف خطّه‏.‏ والعمل حينئذٍ بالخطّ لا بالإشهاد‏.‏ وممّن قال ذلك عبد الملك بن يعلى ومكحولٌ واللّيث والأوزاعيّ ومحمّد بن مسلمة وأبو عبيدٍ وإسحاق، واحتجّ أبو عبيدٍ بكتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى عمّاله وأمرائه في أمر ولايته وأحكام سننه، ثمّ ما عمل به الخلفاء الرّاشدون المهديّون بعده من كتبهم إلى ولاتهم الأحكام الّتي تتضمّن أحكاماً في الدّماء والفروج والأموال، يبعثون بها مختومةً لا يعلم حاملها ما فيها، وأمضوها على وجوهها‏.‏

وذكر استخلاف سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز بكتابٍ كتبه وختم عليه‏.‏ قال ابن قدامة‏:‏ ولا نعلم أحداً أنكر ذلك مع شهرته في علماء العصر فكان إجماعاً‏.‏ ولا تنفذ عند أبي حنيفة والشّافعيّة، وهو محكيٌّ عن أحمد بن حنبلٍ، قال صاحب المغني‏:‏ ووجهه أنّه كتابٌ لا يعلم الشّاهد ما فيه، فلم يجز أن يشهد عليه، ككتاب القاضي إلى القاضي‏.‏

الإشهاد على النّكاح

38 - الحنفيّة والشّافعيّة، والمشهور عن أحمد أنّه لا يصحّ عقد النّكاح إلاّ بإشهادٍ على العقد، لقوله «صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا نكاح إلاّ بوليٍّ وشاهدي عدلٍ»‏.‏ وروي ذلك عن عمر وعليٍّ، وهو قول ابن عبّاسٍ وسعيد بن المسيّب وجابر بن زيدٍ والحسن والنّخعيّ وقتادة والثّوريّ والأوزاعيّ‏.‏ والمعنى فيه صيانة الأنكحة عن الجحود، والاحتياط للأبضاع‏.‏ وعند المالكيّة الإشهاد على العقد مستحبٌّ، لكن يشترط الإشهاد عند الدّخول، فإن أشهدا قبل الدّخول صحّ النّكاح ما لم يقصدا الاستسرار بالعقد‏.‏ فإن قصداه لم يقرّا على النّكاح عليه، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن نكاح السّرّ، ويؤمر أن يطلّقها طلقةً وإن طال الزّمان، ثمّ يستأنف العقد‏.‏ وإن دخلا بلا إشهادٍ فسخ النّكاح كذلك، وحدّا في الحالتين، ما لم يكن النّكاح فاشيّاً‏.‏ وهناك شروطٌ وتفصيلاتٌ فيما يتعلّق بالإشهاد في هذا الموضوع، يرجع إليه في مصطلح ‏(‏نكاحٌ‏)‏‏.‏

الإشهاد على الرّجعة

39 - للفقهاء في حكم الإشهاد على الرّجعة رأيان‏:‏

أوّلهما‏:‏ ندب الإشهاد، وهو مذهب الحنفيّة، والصّحيح عند المالكيّة، وهو قول الشّافعيّة‏.‏ والإشهاد عندهم يكون على صيغة الرّجعة أو الإقرار بها، وهو روايةٌ عند الحنابلة‏.‏ وثانيهما‏:‏ وجوب الإشهاد، وهو قول ابن بكيرٍ وغيره من المالكيّة، وهو روايةً عند الحنابلة‏.‏ واستدلّ الفريقان على أنّ الإشهاد مطلوبٌ بقول اللّه سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فارقوهنّ بمعروفٍ وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم‏}‏‏.‏ فحمل الفريق الأوّل الأمر على الاستحباب، وذلك لأنّ الرّجعة لا تفتقر إلى قبولٍ، فلم تفتقر إلى شهادةٍ، كسائر حقوق الزّوج، ولأنّها استدامةٌ للنّكاح وهذا لا يتطلّب الإشهاد‏.‏

وحمل الفريق الثّاني الأمر على الوجوب وهو ظاهر الأمر‏.‏ ثمّ من أوجب الإشهاد إذا راجعها بدونه هل تصحّ الرّجعة ‏؟‏ من اعتبر الإشهاد شرطاً قال‏:‏ لا تصحّ، ومن اعتبره واجباً ديانةً فقط صحّت الرّجعة مع الإثم‏.‏ وتفصيل ذلك في مبحث الرّجعة‏.‏

إشهاد المنفق على الصّغير

40 - نفقة الصّغير في ماله إن كان له مالٌ، وإلاّ فيلزم بالإنفاق عليه من تجب نفقته عليه شرعاً، وهذا لا يحتاج إلى إشهادٍ‏.‏ وإن كان له مالٌ وأنفق عليه وليّه أو وصيّه من مالهما بقصد الرّجوع عليه، فلا بدّ لجواز الرّجوع على الصّغير في ماله من الإشهاد‏.‏ وكذلك إن أنفق عليه من لا تجب عليه نفقته‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ وخلافٌ يرجع إليه في مصطلح ‏(‏نفقةٌ‏)‏‏.‏

الإشهاد بالإنفاق على من لا تجب عليه النّفقة ليرجع بما أنفق

41 - من أنفق على من لا تجب نفقته عليه بقصد الرّجوع عليه، أو على من تلزمه النّفقة كان عليه أن يشهد حتّى يرجع بما ينفق، وذلك إن عجز عن استئذان من تجب عليه النّفقة أو الحاكم‏.‏ وهذا هو رأي الشّافعيّة، وإحدى الرّوايات عن أحمد، واكتفى المالكيّة بيمين المنفق‏:‏ أنّه أنفق ليرجع‏.‏ وأمّا الحنفيّة فإنّهم يقولون‏:‏ إنّ قيّم الوقف إذا أنفق على الوقف من ماله بقصد الرّجوع فلا بدّ من الإشهاد‏.‏ ويمكن التّخريج على هذه عندهم فيما يشبه الوقف‏.‏ وفي الموضوع تفصيلٌ يرجع إليه في ‏(‏الوقف الوديعة والرّهن والنّفقة واللّقطة واللّقيط‏)‏‏.‏

الإشهاد على الحائط المائل للضّمان

42 - إذا سقط الحائط المائل، فتلف بسقوطه شيءٌ، فيرى الحنفيّة أنّه لا يضمن صاحب الحائط، إلاّ إذا طلب إليه إزالة الحائط قبل سقوطه، وأشهدوا على ذلك‏.‏ ويتحقّق الطّلب من أيّ عاقلٍ ولو صبيّاً‏.‏ ويكون الضّمان عليه في ماله إن كان الضّرر واقعاً على مال الغير، ويكون الضّمان في هلاك النّفس على عاقلة صاحب الحائط إلحاقاً بالقتل الخطأ‏.‏ ويرى المالكيّة أنّ الإشهاد لا يتحقّق إلاّ من القاضي أو ممّن له النّظر في مثل هذه الأمور كالبلديّة الآن‏.‏ وأمّا طلب النّاس وإشهادهم فلا عبرة به في وجوب الضّمان إلاّ إذا كان في مكان ليس به قاضٍ ولا مسئولٌ عن مثل هذا‏.‏ ويكون الضّمان عندهم في المال والنّفس على صاحب الحائط إن قصّر‏.‏ والشّافعيّة والحنابلة لا يوجبون الإشهاد على الطّلب، وإنّما يكفي عندهم الطّلب وحده في وجوب الضّمان‏.‏ وأمّا شروط وجوب الضّمان فيرجع إليها في موضوع الضّمان والجنايات‏.‏